في عمله الأخير «أداعب الزناد»، يستعمل الفنان الفلسطيني خالد جرار، وهو عسكري سابق في أحد الأجهزة الأمنية الفلسطينية، السلاح بالفعل ويطلق النار أيضاً على قارورات مملوءة بالطلاء، فتنفجر على مسطحات القماش الموزعة حولها صانعةً لوحات غريبة... ولو صنع شخص آخر هذه «اللوحات الأدائية»، لما منحنا أكثر من اختلاس لمحة من تاريخ الفن الغني بمثل هذه الأداءات. ولكن عندما يفعلها جندي سابق، تصبح أكثر من مجرد عمل فني. فهو صدمة شخصية تحررت، استبطان لماضٍ شكّله قسراً كما شكّل الكثير من أبناء موطنه، هذا ما قاله الناقد الفني والفنان التركي كوكين أرغون الذي تابع معرض جرار في باريس، وتستضيفه «غاليري ون» في رام الله التي تشرف عليها الفلسطينية سمر مرثا. وشرحت قيّمة المعرض إنيس فالي ل «الحياة»، تفاصيل إنجاز لوحات جرار بطريقة مبتكرة وغريبة، قائلة إن «عمل الجرار كجندي سابق لم يساعد في تسهيل حصوله على طلقات... استحالة إطلاق النار في الشوارع أو الصحراء أو أي مكان عام أجبرت الفنان على بناء غرفة عازلة للصوت في مكان سري بدولة ما، مستخدماً في الأساس «كراتين البيض» وحشوات وألواحاً خشبية وحاوية كبيرة، مُلئت بالرمل لتمنع الرصاصة من الارتداد تجاه أي شخص». وأضافت: «كان مقيّداً بإطلاق النار في مساحة 3.7 متر مربع، وهذا ما زاد من خطورة عمل الجرار الأدائي، ولذلك، ومن أجل عدم المخاطرة بحياة شخص آخر، وثّق تفاصيل العملية بنفسه». وشرحت فالي أن «اللوحات التي تشبه أعمال التجريد (لطخة وسط قماش رسم أبيض) مرفقة بجانب أدائي نفسي وجسدي قوي، ما بين الفن والعسكرية، الفنان والجندي، العنف والفعل». ولكنها، «تدفع حدود الفهم النفسي نحو العيش في مجتمع عدواني. فهذه الرصاصات قد تصيبك، لكنها لن تقتلك، ستجعلك أقوى وأوعى»، كما أفادت. وأكدت أن جرار كان مولعاً بالرسم منذ صغره، لذلك فإن «الرسم بإطلاق النار، مشروع يبدأ من خلاله بتحقيق رغبته في الرسم على نحو ما، من خلال مهاراته المكتسبة كجندي». ولفتت فالي إلى أن الإجراءات لإتمام هذا المشروع كانت غاية في التعقيد، ليس فقط للحصول على الطلقات، بل بالمحددات المرتبطة بتنفيذ المشروع ككل. قتال بالفن وقال جرار: «لدي خياران، أن أقاتل أو أن أقاتل، لكنني اخترت أن أقاتل بالفن... برفق أضغط على الزناد، فتنطلق الرصاصة قاطعة مئات الأمتار في أقل من ثانية. إطلاقها يكون دوماً شيئاً حساساً ورقيقاً يشبه لمس شيء لم يلمس أبداً... بلا شك، ستنطلق الرصاصة بسرعة وتصيب الهدف مُحدثة أشكالاً باللون، فتكشف بذلك عن مدى العجز إذا رآنا الآخرون». وزاد الفنان الفلسطيني الذي قدم أفلاماً ومعارض ومبادرات فنية مبتكرة: «حاولت أن أجد منهجية تتيح لي إنتاج الفن باستخدام بعض مهارات القتل التي تعلمتها خلال تدريبي كجندي، لذلك أرى هذه الطريقة كمساحة من الاستعارات لكل من مساحتي الشخصية والنزوح، تعرض تجانساً حقيقياً بين مهاراتي المتراكمة وتصف انضباطي المكتسب. تدرّبت على إطلاق النار، لأتبع القواعد، وأنا أجيد ذلك». وأكد أن الهدف الرئيس من كل ذلك «التدريب أن أصبح خبيراً في إطلاق النار وفي التمويه». وأضاف: «علّموني أن أصيب الهدف، بسرعة ودقة، وأن أستعمل ما يحيط بي لأموّه نفسي. بعض التمارين هدفت إلى إجباري على صنع زيي الخاص، كما الحرباء، يصعب إدراك وجودها داخل محيطها، لذلك، جمعت بين هاتين المهارتين المكتسبتين في تنفيذ هذا العمل الفني». واعتبرت القيّمة الفنية ريم فضة أن تجربة جرار في عمله العسكري وخوضه رحلة شخصية من خلال فك قيوده كجندي وتحويل نفسه إلى فنان، هي تجربة ذاتية للتحرر من طرق العيش الانضباطية. وهذه «التجربة الغنية أصبحت فكرة بارزة في عدد من أعماله العسكرية». وعددت فضّة أعمال جرار المرتبطة بالعسكرية، مثل معرض «الجندي» في العام 2009 الذي عرض في رام الله، وأظهره واقفاً بالزي العسكري على قاعدة تمثال. وفي معرض «جندي مطيع» في العام 2012، عرض جرار صوراً رسمية لزملائه الجنود في الكتيبة، وأضاف إليها فيديو يوثق عملية تصويره لهم والجنود مصطفون بانتظار الأوامر، في زيّهم، يتم استدعاؤهم واحداً تلو الآخر ليصوّرهم الفنان. وفي «أنا. جندي» في العام 2011، شاهدنا صورة جوية لكتيبة تنتظم وتتحرك بينما تسقط عليهم أشعة شمس الظهيرة من زوايا مختلفة، فتنشئ أشكالاً مختلفة من الظل الممطوط، لكن عندما تتحرك المجموعة يستطيل الظل تحت الشمس، فيذكرنا بأفراد الوحدة. وأشارت فضّة الى أن جرار «يفسح لنا المجال لنؤمن بحرية التفكير خارج الإطار، فبالنظر إلى مشروعه الفني نجد أن أعماله تولّد حوارات جدلية على أكثر من مستوى». وأضافت: «من خلال مشاريعه يصبح الفن حيزاً يتم التشديد فيه على استقلالية الأفكار وحرية المخيلة، وبأسلوبه يكتشف طرقاً جديدة لإنشاء واقع بديل لمقاومة الاحتلال. وعلى رغم خصوصية مصادر أعماله، فإن صداها يتردّد على مستوى عالمي».