لا يعرف معظم أعضاء الحكومة العراقية وزراء وقادة سياسيين الأهمية البالغة والدور الكبير الذي يمكن إن تلعبه الثقافة في الحد من شدة العنف الذي يضرب البلاد منذ أكثر من ثماني سنوات، والأسوأ هو الإهمال الذي يكاد إن يكون كاملاً لوزارة الثقافة من قبل الحكومة والتي وصفها أحد القادة السياسيين «بالوزارة التافهة» حين خصصت لمكونه السياسي ضمن المحاصصة الطائفية المقيتة. في لقاء ل «الحياة» مع وزير الثقافة سعدون الدليمي الذي بدا محبطاً للغاية من مخصصات الوزارة لهذه السنة وقيمتها عشرون ألف دولار قال: «إننا لا نستطيع إن ننفذ أي مشروع من المشاريع الثقافية التي خططنا لها لأن هذا المبلغ لا يساوي شيئاً مقارنة بما نفكر من مشاريع. نحن لا نستطيع إن نقوم بأي نشاط كبير لا في داخل العراق ولا خارجه في ظل هذه الموازنة البائسة... في كل يوم يقدم لي بعض المثقفين حزمة من المقترحات والمشاريع الثقافية الممتازة ولكنني لا استطيع إن أعدهم بأي شيء، هذه هي حال هذه الوزارة». لم يكن الوزير الدليمي المحبط الوحيد من حال وزارته، فمستشاره حامد الراوي الذي ينام في مكتبه المتواضع للغاية يفكر بترك منصبه والعودة الى الجامعة تخلصاً من وجع الرأس الذي يعانيه من أوضاع الوزارة التي يبدو أن لا حلول لها. الوكيل الأقدم في الوزارة جابر الجابري يفكر هو الآخر في ترك الوزارة والعودة الى بيروت بعد يأس وإحباط من انتشال الوزارة من الإهمال. الجابري الذي يريد مغادرة العراق وليس الوزارة فقط يروي أشياء أخرى بعيدة عن وزارة الثقافة لكنها تقع في صميم الحياة الثقافية، فهو يعيش في المنطقة الخضراء وفي مجمع حكومي للضباط الكبار والمسؤولين المرموقين لكن ما يحدث في هذا المجمع يثير السخط والاشمئزاز لأن السكان يرمون النفايات والأزبال من شبابيك شققهم الفاخرة والنتيجة هي إن المجمع أصبح مكباً للقمامة. هذا هو حال الطبقة الجديدة التي تقود البلد الآن. ما يرويه الجابري نجد صداه العالي في الشوارع والقصور الفخمة التي بنيت حديثاً، فأمام كل قصر منيف كميات كبيرة من القمامة تجعل المشهد مفزعاً. يروي الكثير من الناس قصصاً غريبة عن لصوص سرقوا بنوكاً كانت ممتلئة بالدولارات وقاموا ببناء هذه القصور البشعة في فخامتها وطرز بنائها الخالية من أية ثقافة معمارية أو حضرية، لذلك يبدو المشهد متناسقاً بين الفخامة والقمامة لأصحاب هذه القصور. قلنا لوزير الثقافة إن الحكومة استخدمت العنف الشديد مع المتظاهرين الذين طالبوا بإسقاط الفساد في الحكومة ولم يطالبوا بإسقاط النظام ألا تفقد هذه الحكومة شرعيتها في هذه الحالة مع إن هؤلاء المتظاهرين هم الذين انتخبوا هذه الحكومة؟ لكن الوزير رد على السؤال بالطريقة التي سوقها الإعلام العراقي شبه الرسمي وقال إننا كنا نخاف من المندسين من القاعدة والبعثيين ومن مخاطر التفجيرات التي قد تحصل وتؤدي الى سقوط ضحايا كثيرة يكون تأثيرها شديداً على الوضع السياسي الهش. شعراء وصحافيون اعتقلتهم القوات الأمنية بعد تفريق التظاهرة ومارست عليهم العنف بالضرب والكلمات النابية قالوا أنهم قيدوا وضربوا بشدة ولولا تدخل بعض الشخصيات في الحكومة لأصبحنا في عداد المفقودين، ما زلنا نتظاهر كل جمعة لكن العدد بدأ يقل والإحباط بدأ يكبر وننتظر المئة اليوم التي حددها رئيس الوزراء لنبدأ من جديد. الكاتم يعود مجدداً فسر أحد القادة الأمنيين عودة الاغتيالات بكاتم الصوت الى نشاط الجهات الأمنية التي باتت تقترب من الإرهابيين بسرعة وتلقي القبض عليهم وتحاكمهم بسرعة أيضاً مقارنة بالسنوات السابقة، والمتابع إذا قارن بين الضحايا سيعرف المعادلة بسهولة. الضحايا هم إما ضباط كبار في الجهات الأمنية والاستخبارات وإما قضاة في المحاكم الجنائية. الضابط يقبض على الإرهابيين والقاضي يحاكمهم، لهذا يكونون هدفاً مؤكداً للقصاص كي يردعوا الباقين من الضباط والقضاة. في العراق يمكن لأي شخص إن يصنع مسدساً كاتماً للصوت بمبلغ خمسين ألف دينار عراقي (43 دولاراً) فقط لأن الجزء الكاتم من المسدس يستطيع إن يصنعه أي حداد. القائد الأمني يضيف إن الإرهابيين تعلموا هذه التقنية وباتوا يصنعون الكواتم بأنفسهم بعد إن اعترف بعض الحدادين ببيع الكثير منها إلى أناس غير محددين يشك أن يكونوا من القتلة الذين بدأوا يطلبون لاغتيال أي شخصية 400 دولار لا غير! بعد لبنان يأتي العراق كثاني دولة عربية تحتفي بيوم الرقص العالمي إذ قدمت فرقة «مجموعة الرقص الدرامي» على قاعة المسرح الوطني مسرحية راقصة تحت عنوان «ندى المطر» أخرجها وأشرف عليها الفنان طلعت السماوي وتتحدث عن عواطف المرأة المعنفة. ولأن هذا النوع من الفنون جديد على المسرح العراقي وتجربة أولى فقد كانت حركات الراقصين غير المكرسين ميكانيكية وخالية من أية عاطفة وطغت عليها الحركات الأكروباتيكية والرقص الأميركي الحديث الذي يستعرض القوة بدل إظهار الجمال والرقة. لا تكمن أهمية هذا النشاط في انه يحتفي بيوم الرقص العالمي وأن العراق ثاني دولة تحتفي بذلك، بل تكمن أهميته في أنه جاء صفعة للمسؤولين الراديكاليين في السلطة العراقية الذين قاموا بإغلاق النوادي الاجتماعية في العراق والذين يريدون القضاء على بقايا المجتمع المدني فيه. المدينة القبيحة لا تصلح بغداد مدينة للقمة العربية ولا القمة العربية تستطيع إخراجها مما هي فيه لأن بغداد العباسية تحولت الى مدينة ممسوخة لا تحمل أية هوية واضحة، إنها مدينة عشوائية الآن تتضارب في شوارعها هويات تركية وإيرانية وغربية وصينية وكورية. الشركات القابضة تنفذ ما يريده أصحاب رؤوس الأموال والتجار الصغار وهؤلاء جلهم من أصحاب الكسب السريع أو اللصوص أو السادة الجدد والنتيجة فوضى في العمران والأشكال الهندسية الغريبة لمدينة لم ترمم فترة طويلة بعد حروب مدمرة استغرقت أكثر من أربعين عاماً. بغداد اليوم مدينة قبيحة أكثر من أي وقت مضى تتقلص فيها المساحات الخضراء وتضربها العواصف الترابية بين وقت وآخر لتجعلها مدينة من طين، أجمل شوارعها مزروعة بالدبابات والآلات العسكرية. في شارع أبي نؤاس الذي يعد مقصد العراقيين قاطبة يجلس جندي حافي القدمين وحاسر الرأس مع مجموعة من الشباب وهو يحتسي البيرة وعلى بعد مئة متر وعلى دجلة الخير جندي آخر يجلس على قمة الدبابة وهو يدخن النارجيلة.