تم تفضيل الوصية على الإرث في القرآن بأول آية تتكلم عن الوصية في قوله تعالى: «كُتب عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين»، وهي نفس الصيغة التي كتب الله علينا بها الصلاة والصيام والقتال. فإذا راجعنا آيات الإرث والوصية، وجدنا أن للوصية عشر آيات، وللإرث ثلاثاً فقط، وللمهتم العودة إلى القرآن ومراجعة الآيات بنفسه، حتى أن الخالق عز وجل قد أعطى الأولوية للوصية في توزيع التركة في أربعة مواضع من آيات الإرث، فيقول تعالى: «من بعد وصية يوصي بها»، ومناسبة هذا الكلام ما قام به الراجحي من توزيع ثروته بين أبنائه وبناته في حياته ولا شيء في ذلك، وحتى لو أنه ارتأى أن يوصي بأمواله بوصية يوصى بها، مفضلاًً الوصية على الإرث، فلا شيء في ذلك أيضاً، ففي الوصية قدرة على تحقيق العدالة الخاصة بحسب طبيعة الشخص المعني بالوصية وأحواله المالية والاجتماعية، وكذا وضعه بالنسبة لالتزاماته تجاه الآخرين، فتأتي الوصية فتنصفه، لأنها لا تعمل بصفة التماثل المعمول به في الإرث. يخلط الناس عادة بين مفهومي الحظ والنصيب مع أن هذا لا يعني ذاك، فكيف؟ لنوضح بمثال بسيط ومُعَاش لتقريب المعنى، فحين تقرر الدولة ممثّلة في إدارة شؤون إحدى وزاراتها وانطلاقاً من المصلحة العامة، وليس من المصلحة الخاصة، أن تسن قانوناً معيناً، فمن الطبيعي أن تتفاوت المنافع التي تصيب المواطنين من جراء هذا القانون، من مستفيد إلى لا مبال إلى حتى متضرر، وهذا هو الحظ، فما تحقق لزيد غير ما تحقق لعمرو. أما في حالة أن يكون لزيد مساحة أرض يخططها كيفما يشاء، فيقرر أن تكون الحديقة في مواجهة غرفته، وواجهة المسّبح في مقابل مكتبه، إلى ما هنالك من ترسيم لتقسيم الأرض، هذا بالضبط هو ما يطلق عليه مسمى النصيب المعلوم الذي يكون من نصيب أحدهم عن سبق الإصرار والقرار، ولا علاقة له بالحظ المجهول. فالنصيبُ لغةً من فعل نصب، ومنه الأنصبة، وهي المقادير المعلومة، كنصاب الزكاة المعلوم، ونصاب ساعات الدوام المعلومة وهكذا. بخلاف الحظ الذي لا يُحدد من قبل المعني بالموضوع نفسه بل يُحدد خارجاً عن إرادته، وما هذا التوضيح إلاّ لتفصيل الفرق بين نظام توزيع عام، أوصى به الخالق لأهل الأرض جميعاً. وهو الإرث أي الحظ، وبين توزيع خاص يوصي به الإنسان وفق أنصبة معينة يحددها، وهذا هو النصيب الوارد في آيات الوصية. وبالمناسبة فإن الأشخاص الذين أوردهم التنزيل الإلهي في آيات الوصية أكثر من الذين ذكرهم الله في آيات الإرث، مع أن المذكورين في آيات الإرث موجودون في آيات الوصية لكن العكس غير صحيح، فنحن لا نجد مثلاً في آيات الإرث لا مساكين ولا ذرية ضعافاً، لكننا نجدهم في آيات الوصية. باختصار، الإرث والوصية يمثلان جدلية التماثل والاختلاف، ففي الإرث تماثل يَسْري على الكل من دون تخصيص، وفي الوصية تمايز يخصص ولا يعمم. والاختلاف من صفات الخاص. وبما أن المجتمعات الإنسانية تقوم على الاختلاف، وعدم التماثل بين أفرادها في أوضاعهم ومسؤولياتهم والتزاماتهم، فقد تم تفضيل الوصية على الإرث، بدليل أننا لو تأملنا آيات الإرث لرأينا أنها تبدأ بقوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم...»، وتنتهي بقوله تعالى: «...وصية من الله والله عليم حليم». ما الذي نفهمه مما سبق؟ أن الله تعالى قد كلّف الإنسان بوضع وصية خاصة به إن ترك خيراً ينتقل بموجب ما يحدده إلى من يعدّدهم، ويخصص لكل منهم من نصيب معلوم يذكره. أما في حال أنه نسى أو غفل أو جهل أو خاف أن يوصي فلا يعدل، فهنا نجد الخالق عزَّ وجلَّ وضع وصية عامة، عبارة عن قوانين عامة لتحقيق العدالة العامة لا الخاصة، والتي لا علاقة لها البتة بالآيديولوجيات السياسية، فهي لا تورث حكماً ورئاسة ولا تنزعها عن أحد، إنما هو قانون عام لتوزيع ثروة المتوفى وبصرف النظر عن وضع عائلته الاجتماعي ومكانتها على الأرض، فما أعظم الرب وما أضيق فهمنا لتعاليمه. وأخيراً، بقي علينا التنويه إلى أن الوصية ليست سوطاً يرفعه الموصي في وجه من تشملهم وصيته، ورقة يذلهم بها في حياته وفي مماته بحرمانهم من شرعهم. الوصية وضعت أساساً لتحقيق العدل، وثوابها سيعود إلى المُوصِي لا محالة، فإن دعت إلى الظلم والتفريق بين الموصى بهم بحسب ما جاء فيها، فمن يحمل ذَنْب الفوضى؟ الأموات أم الأحياء؟ وللإجابة لابد من مقالة ثالثة، وإن كنت سأكتفي بما ذكرت. [email protected]