ظهرت هذا العام ذكرى النكبة 63 لاغتصاب فلسطين، بأسلوب جديد من حيث التعبير والاحتجاج والاحتفال، حيث توجه آلاف الفلسطينيون من الضفة الغربية ولبنان وسوريا والأردن إلى حدود التماس مع إسرائيل، مسالمين وعزلاً ولا يحملون أي نوع من أنواع السلاح معبرين عن معاناتهم وأمام العالم أجمع وعن شوقهم ومطالبتهم بأرضهم التي مضى على اغتصابها أكثر من 63 سنة، مما أربك الكيان الصهيوني في التعامل مع هذا الأسلوب الجديد، فقام بإطلاق النار على المحتجين العزل، علماً بأنهم لم يتجاوزوا الحواجز والأسلاك الشائكة، ولم يتجاوزوا التعبير السلمي في احتجاجاتهم ومظاهراتهم، لكنها كانت الأولى من نوعها وبهذه الكثافة العددية. جاء هذا الأسلوب مواتياً في التوقيت، حيث يشهد العالم العربي ثورات واحتجاجات، تتزامن مع ما يمر به العالم من تطور سياسي في المواقف تجاه ما يدور من أحداث في المنطقة، فالوضع في ليبيا، والدعم ألأممي لثوارها، يجعل تصرفات إسرائيل، ومهما كانت مدعومة من الولاياتالمتحدة الأميركية والدول الغربية الأخرى، تحت المجهر، ومن الممكن أن يحرج الدول الداعمة لها في حالة تمادت في رد فعلها العنيف تجاه المحتجين، ولذلك جاءت الدعوات الغربية بضبط النفس من الجهتين، وعدم التصعيد، ولكن إسرائيل كعادتها بدأت باتهام دول ومنظمات بتشجيع هذا النمط من الاحتجاج والسلوك الذي سيكون له أثر كبير نظراً للظروف السائدة في العالم. كان للهند تجربة تاريخية ورائدة في قيادة الاحتجاج السلمي والمقاومة السلمية، التي قادها المهاتما غاندي ضد الاستعمار البريطاني، وآتت ثمارها، عندما استطاعت الهند أن تفرض أسلوبها السلمي على المستعمر البريطاني وأن تجبره على الرضوخ والانسحاب منها ومنحها الاستقلال عام 1947م، وأبهرت العالم في ذلك الوقت على انتصارها سلمياً على المستعمر، وأصبح النموذج الغاندي تاريخاً في أسلوب المقاومة والاحتجاج. كما أن التجربة الجنوب أفريقية بقيادة نيلسون مانديلا، أيضاً تصب في هذا الاتجاه، بإجبارها حكومة التمييز العنصري (A partied) في جنوب أفريقيا على الرضوخ للضغوط العالمية، والتي أسستها المقاومة السلمية وقادها المحامي الشاب في ذلك الحين نيلسون مانديلا، ليصبح أول رئيس منتخب في جنوب أفريقيا بعد انتهاء حكومة الأقلية البيضاء، علماً أن غاندي عاش وترعرع أيضاً في جنوب أفريقيا، وكان مانديلا يعتبره الملهم الروحي له. يبدو أن الجماهير العربية، خصوصاً الفلسطينية، بدأت تكتشف القوة التي تملكها في ظل الإعلام الجديد وفي ظل العولمة الجديدة، وبدأت تطور هذه القوة الشعبية بشكل تجعل العالم يتابعها ويؤيدها بل حتى ويحترمها، خصوصاً بعد ثورتي تونس ومصر، اللتين قلبتا موازين المنطقة وتوجهاتها، مما شجعها على انتهاج الأسلوب الجديد في النهج الاحتجاجي والتظاهر في ذكرى النكبة، بعد أن جربت في الماضي الانتفاضات الداخلية الأولى والثانية وكان لهما أثر جيد. ظهر تأييد الثورات العربية الجديدة للقضية الفلسطينية، منذ البداية، حيث عبر الرأي العام الشعبي العربي في الدول التي جاءها التغيير - تونس ومصر- عن تأييد واضح وجلي للقضية الفلسطينية، واستهجانه للسياسات الإسرائيلية، وللسياسات المحلية التي كانت تهادن الصلف الإسرائيلي على حساب الشعب الفلسطيني، كحصار غزة مثلاً، ولذلك وضح للإسرائيليين منذ البداية، أن القوى الجديدة هي قوى مؤيده للشعب الفلسطيني وقضيته، وستكون هذه القضية على قائمة أولوياتها، وهو ما شاهدناه قبل أسبوعين في الحشد المليوني للمتظاهرين في ميدان التحرير للتضامن مع القضية الفلسطينية، والدعوة للتوجه إلى الحدود لفك الحصار عن غزة وشعبها. إن قوة الجماهير الشعبية الفلسطينية واستخدامها لأسلوب الاحتجاج المباشر، والتوجه لإسرائيل من دون أسلحة، سيسحب البساط من القوى الرسمية الفلسطينية التي عجزت عن الحصول على أي تنازل من الإسرائيليين، وغيرها من القوى العربية، وكذلك من الدول الإقليمية التي تسعى للاستفادة من ورقة القضية الفلسطينية، كتركيا وإيران، ولذلك تبدأ عملية التحول في المنطقة من الاعتماد على السياسة الفردية إلى السياسة الشعبية الجماهيرية العربية، التي لا تستطيع أن تتحكم فيها أي قوى سواء حزبية أو فئوية، ولا حتى الضغوط الخارجية، بل هي انعكاس لإرادة شعبية تنفذها الحكومات التي ترغب في التصويت لها من قبل هذه الجماهير. إن التأييد الذي كسبه الفلسطينيون في احتجاجهم الأخير من قبل الشعوب العربية، يمكن أن يتطور إلى أن يصبح شعبياً عالمياً مثل ما حدث عندما هاجمت إسرائيل غزة، خصوصاً مع تطور وتأثير وسائل الإعلام والرأي العام العالمي، في هذه الأيام، وتكسب تعاطف العالم مثل ما فعلت الهند وجنوب أفريقيا في السابق، وتدق إسفين الخلاف بين المتطرفين والمعتدلين من الإسرائيليين ومؤيديهم من القوى الغربية. كان للمصالحة الفلسطينية دور إيجابي في تمكين الرأي العام الفلسطيني وتوحيده ليقوم بما قام به يوم ذكرى النكبة، وليظهر أمام العالم أن الفلسطينيين كلمتهم واحدة، وهدفهم واحد، بعد أن استغلت إسرائيل خلافاتهم كثيراً، في ممانعتها من تنفيذ أي قرارات أممية، بسبب التشرذم والتفرقة الفلسطينية. إن هذا الأسلوب الجديد في الاحتجاج، سيكون عامل ضغط قوياً جداً على الغرب وبالذات على إدارة الرئيس أوباما بالتفكير جدياً بتسريع عملية السلام وإنشاء دولة مستقلة في فلسطين، تستطيع العيش، إذا أرادت أن تكسب ثقة الرأي العام العالمي، واحترامه، والابتعاد عن سياسة الكيل بمكيالين في القضايا التي تخص إسرائيل. ستكون هذه الحركات الاحتجاجية وبهذا الأسلوب المتقدم والجديد، عامل ضغط على الشعب الإسرائيلي ساسة ومواطنين بالتفكير جدياً بالمتغيرات المتسارعة على أرض الواقع من خلال اتخاذ خطوات جادة وملموسة نحو القبول بالدولة الفلسطينية المستقلة والابتعاد عن سياسة التسويف والمماطلة والمهادنة مع المجتمع الدولي، وإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه في العيش الكريم والاستقلال والاستقرار، تنفيذاً لقرارات مجلس الأمن الدولي، وللشرعية الدولية. تميزت احتجاجات ذكرى النكبة هذه السنة وبهذا الأسلوب، بتحريك قضية لاجئي الشتات التي تقلق الجانب الإسرائيلي وتفضح اغتصابه للأرض الفلسطينية، لأن الأجيال الجديدة لم تر النكبة، ولذلك أحيتها هذه الاحتجاجات، وكذلك ما يميزها أيضاً، أنها غير رسمية وغير مرتبطة بجهة معينة، بل هي شعبية خاصة، وهذا هو مصدر قوتها. * أكاديمي سعودي.