قبل حوالى ثمانية عشر عاماً قرر الكاتب والصحافي الإيطالي، ماركو أنسالدو (Marco Ansaldo)، متابعة أدق تفاصيل الرحلة الشاقة والغامضة، إلى حد ما، لزعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، انطلاقاً من سورية، حيث كان يقيم ويمارس نشاطه السياسي والعسكري، حتى وصوله إلى كينيا واعتقاله هناك في 15 شباط 1999، ومن ثم اقتياده من هناك إلى تركيا، لينتهي به الأمر في سجن بجزيرة إيمرلي. التقى أنسالدو، المتخصص في الشأن التركي، بأوجلان مرتين حين كان موقوفاً تحت حراسة مشددة في روما. وفي النهاية خرج بكتاب صدر في عام 2002، بقي حبيس اللغة الإيطالية، ويحمل عنوان «سري للغاية: قضية أوجلان». على ما يقول الكاتب، لم يفكر أوجلان أبداً في مغادرة ملجأه السوري، وإعداد حقائبه «خلال بضع ساعات، بعد ثلاثة عشر عاماً من الضيافة المريحة نسبياً». لكن مع بداية تشرين الأول 1998، بدأ الجيش التركي «بشكل غير متوقع بحشد قوات على الحدود مع سورية، وذلك لفرض ضغط كبير على دمشق. بل ذهب الجنرالات الأتراك إلى التهديد بسخرية فظيعة: ذاهبون لشرب الشاي في دمشق». وفي الواقع تم التحضير للعملية طويلاً. وكانت الاستخبارات الأميركية (CIA)، تقوم منذ فترة، بجمع بيانات خاصة حول إقامة الزعيم الكردي في سورية، كالتقاط صور عبر الأقمار الصناعية لمنزله في حي المزة بدمشق، ومتابعة أنشطته العسكرية وحركته في معسكرات تدريب الحزب. سلم الأميركيون هذه البيانات إلى المصريين، والذين سلموها، من جانبهم، إلى المسؤولين السوريين، وحذروا دمشق من أنه لم يعد ممكناً الدفاع عن هذا الوضع. عندما تلقى أوجلان، البالغ في حينها 49 عاماً، من شركائه القدامى «دعوة حادة لمغادرة ملجأه الذي، كان يبدو آمناً، ولد لدى أكثر من مراقب شكوك في أن وراء كواليس الضغط العسكري التركي المفاجئ تجاه سورية، يكمن في الواقع تحرك دبلوماسي دولي معقد من جانب الإسرائيليين والأميركيين». بدأت رحلة «هروب» أوجلان في منتصف تشرين الأول (أكتوبر)، لكن «علامات طرده» تظهر في وقت سابق. بدأت «الشخصية الكاريزمية للقائد الكردي تضعف مع مرور الوقت. ففكره الثوري والطاعة المفروضة في معسكرات التدريب لم تعد عقائد متجانسة. بدأت تظهر تصرفات مختلفة في الحركة، وبدأ الانضباط يتضاءل. وبدا لدى بعض القادة الميدانيين أن أوجلان أصبح ضعيفاً، وبدأ الفساد ينتشر داخل المنظمة». كل من التقى اوجلان خلال تلك الفترة كان يجده متوتراً، قلقاً. في المزة، الحي السكني الدمشقي، حيث ملجأه بدا المناخ شاحباً، ثقيلاً. وبات واضحاً أن نظام حافظ الأسد سيتخلى عنه بين يوم وآخر. و «أدركت إحدى مرافقات اوجلان، أن الأمر قد انتهى، حين أخبرها هو، في أحد الأيام، جملة تحتوي على وداع وشيك: انظري جيداً من حولك الآن، لأنك لن تتمكني من رؤية هذه الأماكن بعد فترة قصيرة». في الثاني من تشرين الأول، بدأت القوات التركية تحشد الجنود والآليات العسكرية عند الحدود السورية. في الثامن من الشهر ذاته، حين زاره النائب اليوناني كوستاس بانتوفاس «اعترف أوجلان، للمرة الأولى، أنه بسبب الضغوط القوية، أجبر على إيجاد ملجأ آخر، وأعطي فترة أسبوع واحد لإغلاق معسكرات الحزب». هذا الضغط الذي مورس على سورية هو «آخر تحرك ضمن كمين أعد له منذ فترة طويلة. ويبدوا أن الذي نظم كل هذا الخطة لم يترك شيئاً للصدفة، وتم توجيه الضربات في اللحظة المناسبة. يبدو أن المنظمين يعلمون كل شيء عن حالة الزعيم الكردي وحزبه، الواقع الصعب، الانقسامات، وحتى العامل النفسي». في الواقع، لم تفرض المخابرات السورية على أوجلان مغادرة البلاد، وإنما «طلبت منه تغيير مكان إقامته، ربما بالانتقال إلى محمية لبنان المجاورة». لكن من المهم ألا يظهر للعلن وألا يتحدث للقنوات المتلفزة. وصلت هذه الرسالة إلى الزعيم الكردي الذي التقطها بشكل جيد. لكنه «بدا خائفاً، ويغير قرارته بشكل مستمر، متأثرا بآراء مستشاريه». في نهاية المطاف تمكنت روزيلين، المقاتلة التي ترافق الزعيم الكردي في كل تحركاته، تمكنت من إقناعه بالذهاب إلى اليونان، وذلك قبل عشرة أيام من بدء «رحلة الهروب». لكن الزعيم الكردي يبدو و»كانه غير مدرك بعد أن الدائرة من حوله بدأت تضيق. يقول لمرافقيه: اعلم جيداً ما يجري. لكن أريد أن أخبركم أن هذا المكان آمن. أثق بسورية وبحمايتها لي». حاول أوجلان إخفاء آثاره، لكن يبدو أنه تم اصطياده لاحقاً. بعد محاولات متكررة للجوء إلى أثينا (تمكن من الوصول إلى مطار هلينيكون/ Hellenikon وتوقف لبضع ساعات في مكاتب خطوط «Olimpic Airways» الجوية) وجد نفسه، مع مرافقيه الخمسة، على متن طائرة تقودها الاستخبارات اليونانية باتجاه موسكو. العشرات من النواب اليونانيين، الذين كانوا يؤيدون وصوله، اختفوا فجأة. و «رفاقه الأكراد الذي كانوا في العاصمة اليونانية أغلقوا جميعهم هواتفهم الخليوية». وفي تلك اللحظات «بدأت المرافقة روزيلين بالبكاء يائسة في إحدى زوايا المطار، بسبب فشل خطتها بشكل فادح». في حين طلب رئيس استخبارات أثينا من اوجلان مغادرة البلاد، وعرض عليه «طريقاً للهروب»: إلى روسيا، حيث تم قبول طلب استقباله من طريق الزعيم القومي المتشدد، فلاديمير جيرينوفسكي، الذي استضاف اوجلان لمدة خمسة أيام في منزله. التقي أوجلان مع بعض نواب مجلس الدوما، بهدف تهيئة المناخ للاستقرار بشكل دائم في روسيا. لكن في تلك الأثناء تم تحديد صوته عبر مكالماته الهاتفية، ما أجبره على التوجه إلى منطقة أودينتسوفو (Odintsovo)، التي تبعد 15 كيلومتراً عن مدينة موسكو. منذ خروجه من منطقة الشرق الأوسط، كان أوجلان ملاحقاً من قبل الاستخبارات الأميركية (CIA)، الموساد الإسرائيلي، المخابرات التركية (MIT)، المخابرات اليونانية (EYP). حيث تم حفظ نغمة صوته في أجهزة الكمبيوتر بمكاتب لانغلي (Langley)، مركز الاستخبارات الأميركية (قرب واشنطن)، بهدف تحديد موقعه من خلال نظام إشيلون (Echelon) لالتقاط الأصوات. كما لم تغب آثاره عن الاستخبارات الروسية (KGB في حينها). في هذه الأثناء لجأ أوجلان إلى منزل رئيس لجنة الجغرافيا السياسية في مجلس الدوما، ألكسيس ميتروفانوف. لكنه كان يشعر بأنه محاصر. إن الأيام العشرين التي قضاها أوجلان في روسيا جعلته يدرك بسرعة أنه، على الرغم من الترحيب الحار به في البداية، فإن المناخ لم يعد كما كان في السبعينات، تلك الفترة التي قدم فيها «الأصدقاء السوفييت» الدعم لإنشاء هذه الحركة المسلحة ذات التوجه الماركسي- اللينيني. فرئيس الوزراء الروسي يفغيني بريماكوف، المدير السابق للمخابرات ومن ثم مدير مكافحة التجسس، يهتم الآن بالمزيد من عقود الغاز مع تركيا أكثر من «الألعاب السياسية الخفية على رقعة شطرنج الشرق الأوسط». بدأ الزعيم الكردي في اعتناق فكرة الدخول إلى قلب أوروبا، إلى بلد متفهم لقضايا العالم الثالث، وحيث يلعب اليسار دوراً فاعلاً. اجتمع أوجلان مع الدائرة المقربة منه، وبدأ بإجراء اتصالات هاتفية مع القيادات التابعة للحزب في هولندا وبلجيكا وألمانيا. لكن في النهاية أشار بأصبعه إلى إيطاليا. وفي تلك اللحظات استرجع أوجلان اجتماعاته الأخيرة في ملجأه السوري مع نائبين إيطاليين، رومان مانتوفاني (Roman Mantovani)، مسؤول العلاقات الخارجية في حزب «إعادة التأسيس الشيوعي» الإيطالي، ووالتر دي سيزاريس (walter de Cesaris) وهو مسؤول قسم السلام في الحزب ذاته. وكان أوجلان يعلم أنه في إيطاليا ذاتها، وبين يومي 28 و30 أيلول (سبتمبر)، تمكن البرلمان الكردي في المنفى (كان يعبر إلى حد كبير عن العمال الكردستاني رغم ضمه مجموعات أخرى)، تمكن، للمرة الأولى، من عقد لقاءات في البرلمان الإيطالي، وهو ما أثار استياء كبيرا لدى القيادة التركية. واللافت أن «هذا النجاح، في دخول هذه المؤسسة الرسمية، تحقق بمساعدة السياسيين الإيطاليين، ليس فقط من اليسار، بل من الوسط واليمين أيضاً». طلب أوجلان من المسؤول السياسي للحزب في أوروبا، كاني يلماز، التوجه إلى إيطاليا في مهمة سرية، للتحقق من الأجواء هناك. تمكن يلماز، المقيم في ألمانيا منذ سنوات، من عقد لقاء رسمي، ولكن هذه المرة في مجلس الشيوخ (Senato della Repubblica). لم يكن تحقيق هذا الهدف مهمة سهلة. وعلى الرغم من الصعوبات والمقاومة تمكن يلماز، في الثامن والعشرين من تشرين الأول، من إيصال العمال الكردستاني، للمرة الثانية في غضون شهر، إلى البرلمان الإيطالي، حيث عقد اللقاء في القاعة المعروفة باسم (Ex Hotel Bologna). وهنا بدأت السلطات التركية تشعر بالقلق الشديد إزاء ما يحدث في روما، حيث انتهي اجتماع مجلس الشيوخ مع مطالبات بدعوة عبدالله أوجلان إلى إيطاليا، عبر عريضة موقعة من خمسين سيناتورا ونائبا إيطاليا. وفي تلك الأثناء، قام كاني يلماز بتكليف عاكف حسن، مسؤول العلاقات الدبلوماسية للحزب، بمهمات لوجستية استعداداً لوصول أوجلان إلى روما.