لم تعلن دولة واحدة في العالم اعتراضها على الثورة، ولكن هل يعني ذلك أن سقوط نظام مبارك ودخول مصر عصراً جديداً أسعد كل دول العالم؟ بالطبع لا، فالأعراف الديبلوماسية وربما "الكياسة" السياسية وتوازنات المصالح جعلت حتى الدول التي لم ترحب بالثورة أو حزنت على مبارك تستخدم عبارات محايدة مثل "عدم التدخل في الشؤون المصرية" أو "احترام خيارات الشعب المصري" لتنأى بنفسها عن الدخول في صدام مع النظام الذي ستفرزه الثورة. أما داخل مصر فالأمر ليس سراً بل يبدو بوضوح أن أشخاصاً وجهات أضيرت بفعل الثورة وتضررت مصالحها، إضافة بالطبع لأركان النظام الذين لم يعد أمامهم سوى السجون أو محاولة الفرار إلى الخارج. إذاً أكثر من جهة يهمها فشل الثورة المصرية، وأن تُفضي في النهاية إلى حرب أهلية بين المصريين، أو دولة ضعيفة تعاني أمراضاً داخلية تفوق علل الدولة في عهد مبارك، أو أن يقتنع المصريون، ومعهم بكل تأكيد باقي الشعوب العربية، بأن الأنظمة الفاسدة أفرزت شعوباً فاسدة، وأن بقاء الأحوال على ما هي عليه أفضل من سقوط الأنظمة وبقاء الشعوب، بزعم أن الشعب الفاسد لا يمكن أن يفرز في المستقبل حاكماً عادلاً أو حكومة صالحة. الهدف إذاً أن تصل إلى الشعوب العربية رسالة مفادها أن الثورة، وإن كان لها مزايا، فإن أضرارها تفوق مزاياها بكثير. وأن تصل رسالة أخرى للشعب المصري بأن يقبل بنظام ديكتاتوري آخر يملك من القوة ما يمكنه من البطش لمن يهدد بنيان الدولة، أي أن تفضي الثورة في النهاية إلى إسقاط مبارك ليحل مكانه مبارك آخر. تحتاج الدولة المصرية إلى مرحلة إعادة بناء ليس لكون الثورة هدمت أركانها، ولكن لأن ثلاثين عاماً من القهر والظلم والفساد أنتجت دولة مهترئة من مختلف الأوجه ويحتاج العلاج إلى خطط قصيرة وعاجلة، وأخرى طويلة الأمد لإعادة مصر إلى المسار الذي تستحقه فينتعش الاقتصاد وتتحسن أحوال الناس وتحتل الدولة المكانة التي تستحق وتؤثر في المجتمع المحيط إقليمياً ودولياً، وتصبح عنصراً فاعلاً وليس مفعولاً به. ليس هناك أمل لدى كارهي الثورة المصرية في الداخل والخارج أو المعارضين لها أو الراغبين في إفشالها لإعادة مبارك إلى سدة الحكم مرة أخرى، ولكن يتبقى لديهم الرغبة في وأد أي نتائج طيبة للثورة وإفساد فرحة المصريين بها وتحذير الشعوب العربية الأخرى من أن المشهد المصري سيكرر إذا ما ثاروا، وأن الأفضل لهم أن يرضوا بحكامهم وأن يقبلوا ب"عيشتهم" لأن غياب حكامهم عن المشهد سيعني الاتجاه إلى الأسوأ. نعم امضى المصريون ليلة عصيبة حتى فجر أمس، وهم يتابعون الأحداث الدامية أمام مبنى التلفزيون بين الأقباط المعتصمين هناك والبلطجية، وقبلها كانوا يتابعون ما يجري في امبابة، وقلقوا لما حدث في أبو قرقاص، وارتعدوا من أحداث منشية ناصر، وفزعوا لما شاهدوه في أطفيح، لكن أحداث الفتنة الطائفية لم تنفجر بفعل الثورة، وإنما يحركها المتضررون من الثورة الذين كانوا سبباً في كل فتنة سابقة. علماً بأن حادثة الكشح وحدها التي وقعت في عهد مبارك أفضت إلى مقتل اكثر من عشرين قبطياً، ناهيك عما جرى في الإسكندرية وفي القاهرة أو في محافظات الصعيد من حوادث مشابهة جرت كلها برعاية النظام السابق. نعم يعاني المصريون من تفشي البلطجة، لكن هؤلاء البلطجية هم من صناعة النظام السابق الذي استخدمهم سياسياً، وتركهم في عهده أيضاً ينشرون الفزع في كل المحافظات المصرية إلى درجة أن إعلامنا نفسه لم يتوقف عن اتهام وزارة الداخلية بالتركيز على الأمن السياسي دون أمن المواطنين. هناك بالتأكيد انفلات أمني في الشارع المصري لكن هل كان هناك انضباط أمني طوال العهد السابق؟ تكفي مراجعة أرقام حوادث العنف المتبادل بين المواطنين أو حالات الانتحار أو ضحايا حوادث الطرق أو انهيار البنايات أو انتشار المخدرات لإدراك حجم الفساد في النظام السابق، وإدراك أن ما حدث بعد الثورة هو إفراز لما قبلها، وليس بفعل الثورة نفسها. أسقط المصريون نظاما فاسداً بثورة من دون انقلاب عسكري، وحاكموا رئيسهم السابق وأفراد عائلته وأركان حكمه وفقاً للقانون ودون أي إجراءات استثنائية، وأوقفوا سرقات وفساداً استمر لسنوات طويلة، ويبقى لديهم الأمل في مستقبل أفضل لأبنائهم، وهم يدركون أن استمرار النظام السابق لم يكن ليمنحهم أي أمل.