بعد ما أصبحت الاحتجاجات والاعتصامات والتظاهرات سمة الحياة اليومية لمن يرغب من الشباب المصري، هل تفقد الجامعات المصرية الرسمية خاصية التظاهر والاحتجاج التي ظلت حكراً عليها – ضمن عدد محدود جداً من المؤسسات والهيئات في مصر قبل ثورة 25 يناير؟ ففي عهد ما قبل الثورة لم يكن يمر أسبوع من دون أن يجد سكان القاهرة الكبرى وزوارها أنفسهم وسط رتل من سيارات الأمن المركزي بلونها الأخضر القاتم وركابها من أصحاب الوجوه الخشبية والعقول الممنهجة المعادية لكل شاب أو شابة تجرأ وقال لا. لم تكن ماهية ال «لا» تفرق كثيراً بالنسبة إلى قادة الأمن وأدواتهم من الضباط وآلاف الجنود المجندين الذين لا يعرفون في حياة التجنيد تلك سوى طاعة الأوامر. «اضرب» تعني «انهل ضرباً بالعصي والهراوات على الهدف». وسواء كان الهدف طلاباً يتظاهرون ضد قصف غزة، أو يحتجون على غزو دولة، أو يطالبون بتنفيذ حكم قضائي معطل، فالمهم هو تنفيذ الأوامر التي من شأنها تحقيق الأمن والأمان والاستقرار للجامعة، وتحديداً لإدارة الجامعة. ولِم َلا وإدارة الجامعة يعينها الأمن، ويسيطر على قراراتها الأكاديمية والسياسية في شكل يضمن الأمن والاستقرار؟ الأسهل والأوقع والأسرع في عهد ما بعد الثورة هو الدعوة إلى مليونية، أو عشرة آلافية، أو حتى ألفية في ميدان التحرير في يوم جمعة، شرط ألا تتعارض الدعوة وأياً من الدعوات التظاهرية والاحتجاجية الأخرى، سواء كانت شبابية سلفية مطالبة بظهور «أختي كاميليا»، أم شبابية إخوانية مطالبة بدور أكبر لشباب الإخوان المسلمين في داخل الجماعة المسنة، أو شبابية ليبرالية مطالبة بإنقاذ الثورة من آلاف ممن ركبوا الثورة من دون تكبد عناء سداد ثمن تذكرة الركوب. لكن جهات وحركات كثيرة سددت خلال سنوات طويلة فاتورة المطالبة بعودة الجامعات المصرية إلى جانب من عهدها الذهبي السابق، بدءاً باستعادة دورها المندثر في البحث العلمي، ومروراً برفع يد الأمن عن تعيين العمداء والأساتذة بناء على ملفات حسن سير وسلوك أمني، وانتهاء بإبعاد الحرس الجامعي الذي ابتدع لحماية النظام وتأمينه من شرور حريات الطلاب والأساتذة غير الموالين. وما دمنا ذكرنا الأساتذة غير الموالين، فلا بد من الإشارة إلى سنوات من الدفاع المحترم من قبل الأساتذة الجامعيين الذين شكلوا «حركة 9 مارس» الشهيرة التي تكبدت الكثير من قبل الأمن حامي حمى النظام وبلطجيته المتخفين تارة تحت أرواب الأساتذة وتارة أخرى خلف ملابس الطلاب. خفتت تظاهرات الجامعات، باستثناء ربما بعض الاحتجاجات المطالبة بالتخلص من فلول النظام المتبقية والمتمثلة في عدد من العمداء الذين يعتبرهم الطلاب والأساتذة جزءاً لا يتجزأ من النظام السابق. لكن حدة المشكلات التي تعاني منها الجامعة، أو بالأحرى يتوقع أن تعاني منها الجامعة بدءاً من العام الدراسي المقبل، لم تخفت. هي الأرجح ستتخذ شكلاً مختلفاً وماهية مراوحة لما كانت عليه. المجتمع الجامعي ينتظر حالياً بفارغ الصبر الانتخابات البرلمانية المتوقعة في أيلول (سبتمبر) المقبل. فقانون الجامعات الجديد سيصدر حتماً بعد التشكيل الجديد لمجلس الشعب، إلا أن القانون الجديد، شأنه شأن تكوين مجلس الشعب الجديد سيكون أشبه بثمرة البطيخ غير معلومة المحتوى إلا بعد مواجهة الأمر الواقع وتقطيعها إرباً! فقد يكون البرلمان الجديد إخواني التشكيل هواه يميل إلى عدم فصل الدين عن الدولة، فيتوقع بالتالي أن تصطبغ القوانين الصادرة عنه بالصبغة نفسها. وقد يكون مشوباً بدماء سلفية، وهو ما يعني أيضاً جهاداً منظماً ضد كل ما هو مدني في شأن القوانين وتنظيم الأعمال. وقد يكون كذلك ليبرالياً فيحقق قدراً طال انتظاره من الديموقراطية والحرية في داخل أروقة الجامعات. وعلى رغم الهدوء النسبي داخل الحرم الجامعي، إلا أن عبق الثورة يطل برأسه على مجريات الأمور هناك. فهناك الآلاف من الطلاب والطالبات الذين ينتمون إلى تيارات سياسية مختلفة – باستثناء المنتمين والمنتفعين من الحزب الوطني الديموقراطي الذي كان حاكماً – والذين استشعروا الحاجة الماسة إلى سن قانون جديد للجامعات عله يعيد للجامعات احترامها واستقلاليتها. عشرات التيارات والائتلافات تم تكوينها لأغراض مختلفة خلال الأسابيع القليلة الماضية، بعضها يمكن إدراجه تحت بند «الفئوية»، والبعض الآخر يمكن وصفه بالنضالي الثوري. فهناك الحركات والجماعات التي أسسها طلاب أو أساتذة أو الطرفان معاً للمطالبة بتحسين أجور الأساتذة وظروف عملهم، أو لإعادة النظر في طرق التعيين والترقية، أو المطالبة باختيار المناصب القيادية مثل العمداء والرؤساء بالانتخاب. وهناك كذلك جماعات وائتلافات تطالب بتعديل اللائحة الطالبية، واتخاذ إجراءات من شأنها إبعاد الجامعة والعملية التعليمية تماماً عن المنظور الأمني الذي يتم اللجوء إليه بهدف تأمين النظام، ومنها على سبيل المثال لا الحصر «حركة حقي» و «طلاب حركة التحرير» و «رابطة الطلاب الديموقراطيين» وغيرها. وبصرف النظر عن مجريات الأمور الانتخابية، ونتيجة نشاط «جماعة الإخوان المسلمين» التي خلعت لقب «المحظورة» بعد سنوات عجاف، ودور الجماعات السلفية التي خرجت من مخابئها، ومصير الدعوات الليبرالية الشبابية التي فجرت الثورة ثم وجدت نفسها تتعرض لكتم الأنفاس ووأد الأفكار، فالمؤكد أن الجامعات المصرية بعد ثورة يناير لن تكون كما كانت عليه قبلها. سيكون هناك قدر أكبر من التعبير السياسي، وستشهد حجماً أكبر من الحراك الأيديولوجي، وستنفض عن نفسها أتربة سنوات طويلة من تفصيل القوانين المناسبة لأهواء الحزب الوطني. إلا أن الأهواء ليست حكراً على حزب دون آخر، وتفصيل القوانين لا يخضع لمقاس واحد، والعبرة بمجريات الأمور على الساحة المصرية الأوسع والتي ستلقي إما بظلال وارفة على الجامعات المصرية في العام الدراسي 2011 - 2012، أو ستلقي عليها ظلالاً تجعلها تترحم على عهد بائس سابق وتشتاق لرتل مرعب من سيارات الأمن المركزي القامعة التظاهرات الطالبية وتقول «يوم من أيامك يا فساد!».