لم يعد مستغرباً عند سكان مكة أو حتى زائريها إطلاق هذا الاسم على إحدى أسواقهم الشهيرة قديماً، ولم يعد هناك حرج لا من الإفصاح عن مسماها أو حتى الجهر بكنيتها، في وقت كان الهمس به خفيةً يعد جريمة لا تغتفر، أو كبيرة من الكبائر، وبات أمراً طبيعياً أن يقال «ستجد ما تريده في سوق المطلقات» إحدى الأسواق التي ضعفت، وخارت قواها أمام عاصفة التقنية الحديثة التي التصقت به الأسواق الحديثة. وأكد العم محمد جابر (62 عاماً) أن هذه السوق تقع في حي المسفلة، وتحديداً في أعلى الحي، قريباً مما يعرف حالياً ب «دحلة الرشد»، لكن درجة الإقبال عليها بدأت تضعف خلال السنوات الأخيرة، بسبب انصراف غالبية الناس إلى الأسواق الحديثة، مشيراً إلى أن السوق لا تزال تشهد إقبالاً جيداً خصوصاً من بعض الجاليات العربية والأجنبية. وعن نسبتها وإشتهارها بسوق أو «دحلة المطلقات»، أوضح جابر أن هذا ليس مسماها الحقيقي، ولكنه مسماها الذي اكتسبته حديثاً، وجاء بسبب أن غالبية مرتاديه من النساء الأرامل، والمطلقات ممن لا يجدن من يعولهن، نظراً لخفض أسعارها وضعفها مقابل الأسعار الأخرى التي تعج بها الأسواق المختلفة. وأكد أن هذه السوق اشتهرت في السابق بأفواج من الفتيات، واللائي كن يقصدنه في أيام الماضي البعيد عند استعدادهن لإتمام الزواج، أو حضور حفلات الزفاف، والسهرات النسائية، لكنهن هجرنه، وبدأن أخيراً في التوجه نحو الأسواق المركزية الحديثة، والمولات الحديثة. وغير بعيد، وأنت تسير بمحاذاة السوق، حينما تفوح على جانبيك رائحة الماضي، وعبق الأسواق القديمة، خصوصاً في اصطفاف الأسواق جنباً إلى جنباً، تضيء مداخلها بعض الفوانيس ذات اللون الأصفر، وكل بائع واقف أمام دكانه يعرض بضاعته للجائلين والمتسوقين، وحتى الزائرين بحكم قربها الشديد من الحرم المكي الشريف، في صورةٍ جميلة تعيد إلى الذاكرة بعض الأسواق المكية القديمة التي اندثرت ك «سوق الليل» و «المدعى» ونحوهما من الأسواق الشهيرة في مكة. وعن تغير مسماها من مسمى سوق إلى «دحلة المطلقات»، أكد بائع الحلي والمجوهرات عمران رجب أن صغر السوق وإندثارها عبر السنوات أمام هجمة الأسواق المركزية الأخرى أسهم في إطلاق هذا المسمى عليه، على رغم عدم شيوعه كثيراً بين الناس، مشيراً إلى أن غالبية مرتادي السوق حالياً من النساء خصوصاً في الفترة التي تعقب صلاة المغرب وحتى الساعة 11 مساء. وشدد على أن قربها من الحرم المكي الشريف أسهم في ازدهارها خصوصاً أيام العطل الرسمية والإجازات الأسبوعية، وقال: «بدأت الحركة تدب في هذه السوق خصوصاً أن موسم العمرة تم افتتاحه، وبدأنا نشعر فعلاً بكثرة روادها خصوصاً من الجاليات العربية التي تحب اقتناء الأشياء الثمينة والأثرية التي تدل على روحانية مكة وعبقها الطاهر»، لافتاً إلى أن مكة تحتفظ بذكرى جميلة عند غالبية المسلمين. وبينما يشدك منظر الساعة الكبرى (ساعة الملك عبدالله) التي تم بناؤها حديثاً وهي تقف شامخة أمام السوق، تتلقفك أعين المتسوقين والمتسوقات وهم يجوبون ردهات السوق يمنةً ويسرة، من كل السحنات، ومن مختلف الوجوه والطبقات، يبحثون عن هدايا وذكريات ثمينة تذكرهم بهذه الديار المقدسة، وبأيام خلت قضوها بين الحطيم وزمزم. من جانبه، لفت العم عودة السالمي إلى أن أبرز ما كان يميز السوق في تلك الفترة وغيرها من أسواق مكة وجود المقاهي في أطرافها، والتي كانت المأوى لاستراحةٍ عذبة يتخللها تناول أشهر مأكولات مكة ك«النواشف» (الجبن والزيتون والحلوى)، مع الشريك (خبز حجازي يشبه الكعك )، إضافةً إلى الشاي. ولفت إلى أن السوق كانت تزدحم بالناس طوال الوقت، حيث الموظفون والعمال والطلاب والمعتمرون، وتحمل ذكرى بديعة لدى عددٍ كبير من أبناء مكة في بعدٍ اجتماعي وثقافي وفكري يتقاطع مع طبيعة ونمط الحياة الاجتماعية طيلة تلك الفترة، حتى فترة اندثار تلك الحياة بكل تفاصيلها، وحلول المدنية بكل أنماطها الاستهلاكية، والتي لم تبق شيئاً يشير إلى تلك الحقبة الزمنية الرائعة، ويحفظ شيئاً من هويتها التي ضاعت مع بريق التقنية الجديدة.