أنهيتُ أخيراً قراءة رواية «الفيومي»، أحدث إصدارات الروائي طاهر الزهراني، الصادرة بداية هذا العام عن دار ضفاف والاختلاف، في نحو مئة وثمانين صفحة. عادة ما أقصد كتابات طاهر منقاداً بشيء من الحنين، فالرجل منذ تعرفتُ عليه كاتباً ثم صديقاً، لا يكفّ يشتغل على مناطق أثيرة بالنسبة إليّ وإلى قطاع كبير ممن يعرف جدة، جنوبها على وجه الخصوص، أو جنوب البلاد بشكل عام، إضافة إلى حياة القرى وإنسانها المختلف. كان ذلك في معظم أعماله، كنحو الجنوب، وأطفال السبيل، والصندقة، على سبيل المثال. في «الفيومي» يعود طاهر الزهراني إلى ملعبه المفضل، إلى المساحة التي يتحرّك فيها بأناقة ومهارة لافتة، وكأنه يتجوّل في فناء بيته، أو حديقته الخلفية التي يعرفها منذ الطفولة. لكنه هذه المرة يكتب مستصحباً كل التراكم الذي أتاحته خبرة الأعوام الماضية في عوالم السرد. عطية هو بطل الرواية، شاب عادي لولا بعض التمرد. هكذا يبدو الأمر ابتداء وهو يُعلن ضيقه بحياة المدن ليعود إلى القرية التي تسكنها جدته، في هجرة عكسية لما آلت إليه الأوضاع من نزوح جماعي باتجاه المدينة. هذه العودة لم تكن على مستوى الجغرافيا وحسب، بل نفذت في عمق التأريخ ونحن نتعرف على تأريخ جدته الفيومية التي تعود جذورها إلى الفيوم في مصر، وما يعنيه ذلك لشاب لا يعرف إلا قرية تأبى أن تنسى هذا التأريخ ولا تكفّ تذكره به في كل مرة. هنا تزداد القصة تعقيداً، فالأمر لم يعد يتعلق بالنوستالجيا وحدها بقدر ما أخذ يغوص في الكلفة التي يدفعها المرء من دون أن يكون له سابق ذنب أو تورّط. تعلو وتيرة السرد ونحن نمضي مع عطية في رحلة كفاحه ليثبت ذاته في وسط راسخ التقاليد في نبذ الآخر أو حشره، في أحسن الأحوال، في قوالب انتقاص لا فكاك منها. حين نبدأ الإمساك بهذا الخيط، ننتبه أننا تورطنا في قصة حب رقيقة بين عطية وغالية، قبل أن ينتهي الأمر إلى المأساة. أجاد طاهر الزهراني وهو يغمس كل ذلك في جرعة مقدرة من تأريخ المنطقة وإرثها وعاداتها. كان يمكن لهذا النص أن يقع وتتبعثر خيوطه لولا ذلك المقدار الملائم من كل شيء، فبدا التأريخ كظل لعموم الحكاية، وليس قاطرة يقودها لتسقط في خانة الإملال والحشو. نجح برأيي طاهر في تقديم نصّ جميل وحميمي، نبدأه بهدوء، ثم نلهث قبل أن تعود أنفاسنا إلى وتيرتها المنتظمة، لكننا في الأثناء نكون قد تبللنا بذلك الجمال، وصار من العسير أن ننكر الأثر المتروك في نفوسنا جراءه. * روائي إريتري.