ما أجمل أيام الطفولة وما أجمل أيام المنافسة الشريفة في مقاعد الدراسة، كانت البراءة ديدننا وجهل المستقبل وما يحمله لنا من أفراح وأتراح سمتنا، كنت أعتقد أن أي شخص يطلق عليه كلمة «مهندس» هو شخص معظم أو غير عادي لعشقي لهذه المهنة، فكنت دائماً ما أكتب قبل اسمي حرف (م) لحلمي بأن أكون ذلك الشخص. سارت الأيام وأنا متمسك بحلمي ومتحصن بتفوقي الدراسي إلى أن قُبلت في كلية الهندسة، وبدأت العذاب والمعاناة من سهر لليالي وتكريسٍ للجهد، ناهيك عن تعسف بعض دكاترة الجامعة الذين لا هم لهم إلا التضييق على الطالب، ولكن بعد خمس سنوات من المثابرة وترويضٍ للعقل والفكر ليتناسب مع هندسة التخصص. فتخرجت وأصبحت بش مهندس «أد الدنيا» على قولة إخواننا المصريين، وأصبحت التفت ذات اليمين والشمال لعل أحداً يخطفني للعمل لديه، ولكن ما من أحد؟! فقلت مخاطباً نفسي مالك بهذه العجلة يا مهندس، فالوقت مازال باكراً، ولكن مضت ستة أشهر وأصبح تأثير كلمة مهندس يتلاشى في صدري فما فائدة مهندس بلا عمل؟! ذهبت أطرق أبواب العمل من حكومة وقطاعٍ خاص، فالحكومه «انتظر اسمك ينزل في الإعلان»، والقطاع الخاص وبعد مقابلات شخصية وكرٍ وفر عملنا براتب خمسة آلاف، ودوام إلى الساعة السادسة عصراً، ومديرٍ أجنبي يراك بكل استحقار وكأنك أنت الأجنبي، أما أبناء جلدته فهم الأعزون ونحن الأذل، لهم المرتبات العالية مع تميزي عنهم أنا ابن البلد في التخصص والتقدير، ولكن جرت الرياح بما لا تشتهي سفينتي يا «مهندس الغفلة»، نزل اسمي في وزارة الخدمة المدنية وهبيت لهم مسرعاً لأباشر العمل في حكومتي وأخدم بلدي، ولو أن الراتب لا يساوي فصلاً دراسياً واحداً من الفصول العصيبة التي مرت بي. باشرت العمل الحكومي من دون أي مميزات مادية أو تطويرية أو حتى معنوية بل أصبحت ضمن حشود الوزارات وكوادرها المتقاعسة، فأصبحت من مهندس وصاحب حلمٍ كبير إلى سكرتير أو ناسخ أو محاسب أو في بعض الأحيان مراسل، أي أصبح المهندس بتاع كله... ولكن جرت الرياح بما لاتشتهي سفينتي. في أول يومٍ من عملي في القطاع الحكومي سمعت عن سلم وظيفي خاص «كادر المهندسين السعوديين» العاملين في القطاع الحكومي وسيكون هذا الكادر لا مثيل له لا في السند ولا في الهند، وربما يصل راتبي إلى أرقام خيالية تجعلني لا أتندم ولو للحظة على دخولي عالم الهندسة، فأصبحت لا أنام الليالي وأنا أحسب راتبي الجديد حتى جفت الأقلام وامتلأت الدفاتر، ومضت الأيام والليالي ولم نر لا كادر ولا غيره، بل «قطعوا خطاب مطالبكم وحقوقكم ولا تتجمعون كالنساء»، فالمهندس في عمله يشرف على مشاريعٍ بملايين الريالات وبأرقامٍ يسيل لها اللعاب، وتحت إشراف ذلك المهندس الذي يتقاضى راتباً لا يتجاوز السبعة آلاف ريال ودائماً ما تكون النفس أمارة بالسوء، وكنت أردعها بمخافةٍ من الله وبتأميلها بالكادر الذي سيغنيني بحلاله عن حرامه. وفي يومٍ من الأيام دعاني أحد زملاء المهنة للذهاب معه لمقابلة وزير الخدمة المدنية الذي نحن ندرج تحت وزارته بكوننا على سلم الموظفين الحكوميين العام لعلنا نوصل معاناتنا له، ومع الأسف لم أستطع الذهاب ولم أنل شرف المقابلة التي كنت أتصور بأنه سيأخذهم بالأحضان وينظر إليهم بنظرة الشفقة لحالنا المزري! ولكن حصل ما حصل وكلكم تعرفون ولن أسرد وأطيل في ما حدث، ولكن الله يبارك في «اليوتيوب»، وسارت الركبان وتحدثت العربان كافة بما قاله الوزير وما دار... وجرت الرياح بما تشتهي سفننا يا معالي الوزير. وبعدها هبت هيئتنا (هيئة المهندسين السعوديين) التي أراهن بل أجزم أن الكثير لا يعرف عنها أو عن دورها، بل إن معظم المهندسين لا يعرفون عن دورها شيئاً!! سوى أنها هيئة يتسلق أعضاؤها على ظهورنا نحن الغلابة والمساكين المهندسين من خلال هذا الكادر ليترشحوا لعضوية مجلس الهيئة، وبعد أن يصلوا إليه يلتزمون الصمت المطبق وينشغلون بأهدافهم ومصالحهم الشخصية من مكاتب هندسية واستشارية وغيرها، وراح أعضاؤها يتشدقون في الإعلام المرئي والمقروء يعددون بطولاتهم ومعاركهم من أجل هذا الكادر وأنهم قابلوا وزير الخدمة بعد مقابلته المشؤمة للمهندسين، وأنهم وعدوهم خيراً وقريباً جداً جداً جداً سيقر الكادر يعني (كأنك يا بوزيد ما غزيت) لأنكم من 2008 وأنتم على «هالاسطوانة» فكل سنة تقولون قريباً جداً، أما بعد ثلاث سنوات من هذا الوعد ونحن في 2011 لم يتغير شيء إلا أنه زادت كلمة «جداً» إلى ثلاث مرات، وهذا يطرح تساؤلاً: عام 2050 كم سيكون عدد مرات تكرار كلمة «جداً»؟! الإجابة للمهندسين لأنهم مبدعون في الحساب والرياضيات! قال ابن خلدون «واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره، لأن براهينها كلها بينة الانتظام جلية الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها، فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقل على هذا المهيع، وقد زعموا أنه كان مكتوباً على باب أفلاطون: «من لم يكن مهندساً فلا يدخل منزلنا». وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون: ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقيه من الأوضار والأدران. وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه». وهو من العصور الوسطى، أي قبل قرابة 700 عام ويعرف قيمة المهندس وقدره سواء الاجتماعي أو الاقتصادي! فعجباً لأمر مسؤولينا ووزرائنا الذين مازالوا يجهلون قيمتنا أو يتجاهلونها عمداً! فنحن في زمن التنمية والثورة العمرانية والبنى التحتية التي مشاريعها ببلايين الريالات تقع على عاتق المهندس السعودي الذي همش وكأنه لا يساوي شيئاً بينما في البلدان الأخرى سواء المتقدمة أو المتخلفة منها هي من المهن المرموقة التي تعول عليها بلدانهم! قرابة 20 ألف مهندس سعودي يعملون في القطاع الحكومي وتحت إشرافه، غالبيتها مشاريع ضخمة، هل سيكون هذا العدد كله نزيهاً ولا يقبل الرشوة ويخاف الله مقابل راتب مزرٍ من دون تأمين طبي ولا توفير مسكن؟! هل سيعمل هذا العدد كله بالشكل الصحيح وينجزوه على أكمل وجه؟! هل سيبقى هذا العدد كله في العمل الحكومي أم يتجهون للقطاع الخاص؟! أم تصبح غير فارقة، كما قال أحد المسؤولين اذهبوا للقطاع الخاص، ولن نندم عليكم وسنستقدم مهندسين أجانب أفضل منكم! الوضع أصبح مزرياً وعجلة التنمية ومشاريعنا المتعثرة لن تسير إلا بحلٍ جذري لهذه المشكلة، فيجب أن تحل هذه المشكلة من دون الالتفات للعقول المتحجرة التي أصبحت قديمة، تفكر في نفسها ومصالحها ملقية بمصالح الوطن وراءها. يا بلدي ويا موطني، نحن أبناؤك المهندسون الذين ترعرعنا على ترابك في لهيب صيفك وقرس شتائك، وذقنا الأمرين لننال شرف الشهادة ونجعلك تزهو عالياً بين الأوطان تفتخر بنا وبمنجزاتنا... فهل يا وطني لا نستحق منك شيئاً من خيرك يكافئنا على ما بذلنا واجتهدنا وسهرنا منذ أيامنا الأولى إلى أن تخرجنا؟!... أحبك يا وطني ولأجلك يا وطني تكلمنا.