نعيش حالياً حقبة فكرية مختلفة عن العقود الماضية، تميزت بسرعة إيقاعها وتوالي مستجداتها وحسمها القوي مع الماضي ودعمها الحازم من قِبل السياسي والإعلامي. هذه العوامل جعلت حقبتنا الراهنة فرصة فريدة لإلقاء الضوء على أبعادها وفق معطيات السنن النفسية والاجتماعية، كما أنها مغرية لقراءة تحولات الخطاب الديني على وجه الخصوص وانتقالاته عبر زوايا حادة صنعها لنفسه وضاقت اليوم على رغباته وتخوفاته. طبيعة هذه التغيرات تزامنت مع انفتاح قوي نحو المرأة والترفيه ونقد إعلامي لقائمة الممنوعات التي ترسخت في الأذهان لأكثر من خمسة عقود من الزمان. هذه الملفات التي كانت سابقاً سبباً في مواجهات فكرية وأيديولوجية تم حسمها لتيار الانفتاح؛ إن صحت التسمية. وهو ما يجعل من المهم قراءة أبعاد هذا الحسم وطرح سؤال محوري هو موضوع هذا المقال؛ والمتعلق بزمن الوصاية والشعارات الدينية هل انتهى؛ أم أن هناك جولات أخرى تنتظرها الأجيال القادمة؟ أمام هذا السؤال أطرح الأفكار التالية: أولاً: خلال العقود الخمسة الماضية كانت قائمة الممنوعات تطول وتزداد مع امتداد تيار الصحوة الدينية؛ ومع تكاثر الجماهير المتحمسة والمقبلة نحو الدين بصدق وإخلاص. كانت تلك الجموع تتجه نحو الرغبة في طهورية تامة من كل علائق الدنيا وشهواتها، فجاء الخطاب الديني استجابةً لهذا التوجه فتميز في شكل فائق في إضفاء المثالية على التدين الجديد آنذاك، وربطه في شكل قوي مع نماذج عليا من سلف الأمة، كانت تمثل قبل أكثر من ألف عام حالة فريدة في سياق عصرها، مثل سفيان الثوري وابن المنكدر والفضيل بن عياض. هذا على مستوى التزكية والرقائق، أما نماذج الفقه والعقيدة؛ فتصدّر أنموذج ابن تيمية وابن القيم بقوة في تلك الفترة الذهبية من الصحوة، ساعد على هذا القبول لتلك النماذج الفريدة؛ خطاب الوعظ المتعدد المنابر والمتألق بوسائل حديثة تتطور في شكل سريع من خلال الأشرطة والرسائل الورقية ثم الفضائيات الدينية، ما أدى بعد فترة وجيزة إلى توسّع شريحة المتأثرين وانتشارها في مختلف المناطق والفئات، ومع الدعم الرسمي والسياسي؛ أصبح النفوذ المجتمعي لها لا يقارن بالتيارات المنافسة التي تضعضعت خوفاً من نقمة الجماهير المتدينة والسلطة الراعية، ولأجل إظهار هذه القوة العددية تبنى الخطاب الصحوي والعلمي أيضاً التركيز على المحرمات الظاهرية كالتدخين والغناء والتصوير ومشاهدة التلفاز وقيادة المرأة للسيارة، والمظاهر المخالفة كالإسبال وحلق اللحية وكشف وجه المرأة، وأصبحت هذه القوائم المقدّسة هي المدخل الجديد نحو التدين أو المروق من الالتزام الديني، كما أصبح المظهر الاجتماعي العام يعين على فرز المجتمع في شكل تلقائي يظهر للجميع في أي مناسبة أو احتفالية عامة. هذه الحالة لم تكن مكراً تعمده شيوخ العلم والصحوة، ولم يكن نفاقاً مارسته الجماهير المتحمسة؛ بل أجزم أن روحاً من التدين كانت عارمة، وقلوباً مخلصة أرادت صدق الإقبال مع الله تعالى، ولكن هناك عوامل جعلت صدق البدايات يختل مع خداع المواجهات، خصوصاً مع خصوم الصحوة ممن يسمون بالليبراليين المتعصبين للانتقام متى تحين الفرصة؛ بل كانت الفسحة التي يتحركون من خلالها عبر بعض الصحف أو القنوات فرصتهم السانحة لتوجيه النقد العلمي والتهريج العبثي لأدبيات الصحوة وخطابها الشرعي. ثانياً: أعتقد أن الفرز الذي انتجته الحقبة الماضية من صراع الصحويين مع خصومهم الليبراليين؛ كان تكريساً لحالة الانقسام داخل المجتمع نحو خطابين متنافرين، ساهم هذا الانقسام الخفي في خندقة الخلاف في شكل علني، وللأسف كان كل من الفريقين يستعمل الأدوات ذاتها في حربه للآخر، مثل سلاح الوطنية واستعداء السلطة ومحاربة الإرهاب وغير ذلك من أدوات كافية لإشعال الخلاف لأتفه الأسباب!، بيد أن العنصر الفاعل الذي لم ينزل المعركة حينها، لكنه حسمها بعد ذلك بالضربة القاضية، جاء من بوابة السياسي عندما أعلن عن الفريق الخاسر في تلك المواجهات، ومن ثمّ تثور الأسئلة البدهية التي يطرحها أي مراقب للشأن العام، هل انتهت تلك المواجهات حقيقةً؟ أم أنها جولة قد تتبعها جولات أخرى؟ ثم هل أصبح المجتمع قادراً على أن يختار فريقه أو لنقل آرائه الخاصة بعيداً من خطابات التهييج وإثارة الخصومات؟ ثم ما هو مصير تلك القوائم من المحرمات القطعية التي أصبحت محل نظر، وتحولت نحو مسائل خلافية، وأصبح فريق المنع بالأمس هم أصحاب الإباحة اليوم؟. هذه التساؤلات ليست في دائرة التحوّل الفكري المبني على الحجج والأدلة فحسب؛ بل ينبغي أن تُقرأ في دائرة الفهم النفسي والاجتماعي لهذه المتغيرات. ثالثاً: نحتاج للعودة لسؤال المقال الرئيس؛ هل انتهى زمن الوصاية والشعارات الدينية؟. وهنا لا بد من الوقوف من بعيد للنظر في المشهد الصحوي والشرعي. هل كان فعلاً يمارس الوصاية على المجتمع؟ أم أنها من الدعاوى الكيدية التي يمارسها الخصوم؟، وأظن أن هناك افتراضاً متيقناً (عملياً) في العقل الشرعي والصحوي؛ أن المجتمع لا يعرف طريقهُ ولا يُحسن اختيار مواقفه من الأحداث وحتى الممارسات اليومية، وهذا الشعور أصبح دافعاً رئيساً لتقمص الوصاية من باب الخوف والرعاية للمجتمع، يظهر ذلك من خلال برامج الفتاوى شبه اليومية التي كانت توجِّه الفرد نحو أدق التفاصيل الحياتية، ويبادر الفرد العادي من تلقاء نفسه لسؤال المشايخ عن تصرفاته المعتادة خوفاً من الوقوع في الحرام، ويقابله جواب المفتي بتغليب سد الذرائع والنزوع نحو الاحتياط صيانةً له من الحرام؛ بينما الكثير مما غُلِّب على تصنيفه بالحرام القطعي كان يُمارس خارج الحدود الجغرافية أو بعيداً من مجتمعات الصحوة المثالية! كما ظهرت الوصاية من خلال الرجوع للدعاة والمشايخ وأخذ رأيهم في أدق التفاصيل التخصصية الأخرى المتعلقة بالطب والتجارة وتوظيف الأموال والإعلام وحتى تفسير الأحلام؛ ليس من أجل معرفة الحكم الشرعي في قضية نازلة؛ بل من أجل البركة الاجتماعية وتمرير القبول بين الزبائن والمستفيدين، هذه الوصاية في كثير من أدبياتها تحولت مخلِّصاً يُنجي المجتمع من العذاب في حال اتبع هذه الأدبيات، أما المعتمد في تحقيق هذه التبعية فجاء من خلال تكريس الدرس العقدي وحساسيته المقدّسة لدى الفرد، على حساب حاجات المجتمع للدرس الأخلاقي والأدبي وحتى الفقهي. رابعاً: هناك حالة أخرى تستلزم النظر في حقبتنا الماضية المتخمة بكثير من الشعارات البرّاقة، من خلال السؤال عن تلك الشعارات وفاعليتها في التأثير الجمعي؟ وهل لا تزال تملك تلك الشعارات تماسكها المعرفي الذي يجعلها قابلة للعودة من جديد؟، وهنا نحتاج إلى عملية فرز موضوعي للشعار الرباني الداعي للإيمان بالتوحيد، أو القائم على قاعدة دينية صحيحة، فهذا الشعار حتى لو كان ملهماً للحقبة الماضية فيجب أن يبقى ملهماً في الحاضر وحتى المستقبل، كصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، والقرآن دستورنا وغيرها، أما الشعارات التي غذّت حماسة الجماهير لعقود ماضية، وتحولت كتلة صلدة لا تقبل النقد حولها، بينما معانيها لم تنضج ودلالاتها لم تُفحص في شكل علمي؛ فهذه التي ذهب بعضها مع رياح التغيير وستزول قطعاً عند خفوت الحماسة بها، وأقصد تلك الشعارات التي تعالت في شكل لافت في الحقبة الماضية مثل: «الإسلام دين ودولة» و «الموت لأمريكا وإسرائيل» و «الحاكمية» و «لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة» وغيرها، فهذه الشعارات غيّبت العقل المسلم حقباً من الزمن، وثوّرته بلا بصيرة، وصيّرته ضحية بلا قضية، وللفيلسوف العربي طه عبدالرحمن نقد موضوعي لهذه الشعارات في كتابه المذهل «روح الدين» يمكن الرجوع إلى تفاصيله، وفي هذه الأيام؛ يظهر جلياً أن لغة الشعارات في عالم مواقع التواصل الاجتماعي لم تعد ذات جدوى في التأثير الجمعي، فتحشيد الناس وفق مُثل وشعارات دينية وسياسية لم يعدّ مقبولاً بين شباب اليوم، لأمور منها: تنامي الوعي النقدي والقدرة على الفحص الموضوعي لمعاني تلك الشعارات، والمقارنة بينها وبين مثيلاتها في المجتمعات الأخرى، والتأكد من تاريخ دعاتها؛ سواء كانوا من الإسلاميين أم من الليبراليين، ومدى صدقهم وكشف حساباتهم الماضية في تلك المواقع الاجتماعية لإظهار تناقضاتهم غير المبررة، كل ذلك أفقد الشعارات مادتها اللاهبة ومثيراتها التحريضية للعمل والانتماء. خامساً: هل يمكننا فعلاً أن نعلن أن الوصاية والشعارات الدينية وحتى السياسية مضى زمانها بغير رجعة؟ أعتقد ذلك، فمن خلال ما سبق من مناقشة، يمكن الإضافة بعللٍ أخرى أطرحها للمراجعة، أهمها من وجهة نظري أن الخطاب الديني في حقبة الصحوة الدينية كانت له مرجعية رسمية وليست شعبية فحسب، ومرجعية محترمة جداً في علمها ووعيها، ولكن الخطاب الديني لم ينتج لجموع الشباب مشاريع كبرى للترشيد، أو يوجههم نحو البناء التنموي والفكري، بقدر ما كان دعوة لحضور دروس أو خطب أو برامج فلان من الدعاة أو المشايخ، كما أن الخطاب ظهر عاطفياً بامتياز، ومن حاول تحويله خطاباً عقلانياً وفكرياً سيخسر الجماهير؛ ما يعني فشله وفق معايير التنافس الدعوي الذي يقاس بالعدد والكم في غالب الأمور، والأهم من وجهة نظري أن الفترة الماضية كما عالجت مشكلات اجتماعية وتربوية فقد انتجت كذلك أمراضاً معقدة لا نزال نعاني آثارها حتى اليوم، يعود بعضها لاهتمام الخطاب المشايخي بإصلاح المظاهر على حساب إصلاح البواطن، وغياب الوعي المقاصدي في التعليم والإفتاء والبلاغ الدعوي، إضافة إلى ضعف الربط الأخلاقي في التعليم الشرعي، وتواضع المشاريع الفكرية الناقدة والفاحصة للتراث والقائمة على منهجية بناء التفكير الموضوعي لدى الشباب. وختاماً... تبقى هذه المناقشات والمراجعات المثارة حول حقبتنا الماضية ومدى انتهاء الوصاية والشعارات منها، خطوةً أولى لمزيدٍ من النظر والبحث الموضوعي عن عللها وإشكالياتها، ليس بغرض محاكمة الطرف المخطئ أو انتهاز فرصة الانتقام من خصوم الماضي؛ بل إن الغرض يكمن في الاستفادة من دروس تلك الحقبة؛ بغية فتح صفحات جديدة متسامحة مع تراثنا ووأوطاننا وإنسانيتنا، فمتطلباتنا اليوم لا تقبل التأجيل، وتحدياتنا الراهنة تضطرنا لترتيب أولوياتنا مع الآخر أياً كان، والمواجهة الحقيقة ينبغي أن تكون مع من يريد تفتيتنا جزراً متناثرة وطمس هوياتنا بكل جرأة، لنبقى كائنات حية بلا لغة ولا تاريخ ولا دين!