التوقيع على اتفاق الوفاق الفلسطيني بين السلطة وحركة «حماس» خطوة تأخرت كثيراً. كان الاتفاق لأشهر خلت شبه مستحيل. الفضل في تحريك المصالحة كان الحراك العربي، من تونس إلى سورية مروراً بمصر واليمن والأردن... شعر الفلسطينيون أولاً بأن قضيتهم لم تعد تحتل البند الأول في جدول أعمال العواصم العربية التي باتت أمام جدول أعمال داخلي حافل. يكفي هذا التحول الكبير الذي شهدته مصر مثلاً، المعني الأول والأساس بقضية قطاع غزة الذي تسيطر عليه «حماس»، والتي شكلت ولا تزال الباب الوحيد لأي حل لهذه القضية. تبدلت الحال في مصر. ذهب النظام الذي لم يبد أي ارتياح لصعود «حماس». بل مارس كل الضغوط على الغرب لتأجيل إجراء الانتخابات النيابية في الأراضي المتحلة عام 2006، محذراً من فوز الحركة. وحاول عبثاً اقناع الأميركيين والأوروبيين بذلك. كان يخشى فكرة قيام «إمارة إسلامية» على حدوده الشرقية، فيما هو يخوض مواجهة دائمة مع «إخوان مصر». وكان يخشى أن تصبح إيران على حدود سيناء بفضل دعمها الحركة وأخواتها من الفصائل المناهضة للسلطة الفلسطينية والتسوية السلمية. فيما كانت القاهرة تقدم نفسها الشريك الأساس في التسوية. وهو ما أثبته فعلاً الاتفاق الأخير الذي سيوقّع هذا الأسبوع. ولكن سيان بين نظام كان يعود إلى واشنطن وإسرائيل في كل خطوة في هذه القضية ولطالما اتُهم بالمساهمة في تشديد الحصار، ونظام أعلنت كل من واشنطن وتل أبيب أنهما فوجئتا بنجاحه في إبرام المصالحة من دون التنسيق معهما أو إبلاغهما! مصر تغيرت وتتغير. وهذا ما دفع الأطراف التي كانت تناهض نظام الرئيس مبارك إلى مواكبة هذا التغيير والتخلي عن تصلبها. أعلن أركان النظام الجديد نيتهم إعادة تطبيع العلاقات مع إيران، ووصل ما انقطع مع سورية. ووعدوا بمعاودة فتح معبر رفح، ما يخفف من وطأة الحصار. ويسعون إلى استعادة القاهرة دورها الإقليمي الراجح في المنطقة. ولم يكن في قدرة طهرانودمشق البقاء على عنادهما الذي حال دون تسهيل المصالحة في السابق. مصر ليست وحدها. سورية تتغير. والفصائل التي تستظل بحمايتها سياسياً وأمنياً تستشعر الخوف من الأيام الآتية. وهي تعلم أن التغيير الآتي، أياً كان حجمه، سيحد من «الامتيازات» السابقة. وهي تشعر بأن بعض «المقايضة» الدولية - الاقليمية لدمشق يدور حول علاقتها مع الجمهورية الاسلامية ودعم «المقاومتين» اللبنانية والفلسطينية. يريدها بعض العرب أقرب إلى إطار الجامعة منها إلى «ممانعة» إيران. مثلما يسعون إلى عودة مصر إلى موقع القيادة. وقد يجد قادة «حماس» المقيمون في دمشق انفسهم امام البحث عن موقع آخر قد تضطرهم الظروف إلى اللجوء إليه... ولا حاجة الى التذكير بعلاقاتهم الطيبة مع «اخوان مصر» الذين لهم ما لغيرهم من نصيب في الحكم الجديد في القاهرة. السلطة الفلسطينية أيضاً التي كانت تجاري «مصر مبارك» في الحملة العلنية على إيران، وفي الجفاء المعلن أيضاً مع دمشق، تجد نفسها في ظل الحراك الحالي وحيدة في مواجهة «خصميها» اللدودين. وحتى الحضن الأردني الذي كانت تلجأ إليه أحياناً كثيرة يجهد باحثاً عما يقيه الرياح العاتية التي تعصف بالمنطقة، عينه على الداخل والعين الأخرى على ما يحدث لدى جارته الشمالية التي بدأت «تمدّه» بأعداد من المهاجرين، هو الذي لا يجد ماء لتوفيره لمئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين والعراقيين. اذا كانت السلطة تشعر بأنها فقدت سنداً بسقوط مبارك واذا كانت «حماس» تشعر بالقلق مما يحدث في دمشق، فان مكاسب السلطة من الاتفاق كثيرة. ولا تقل عنها مكاسب «الحركة» التي فضلت أن «تبيع» قرارها بالمصالحة إلى القاهرة وليس لسواها. يستطيع أبو مازن الذي تأخذ عليه حكومة بنيامين نتانياهو أنه يمثل شريحة من الفلسطينيين، أن يتوجه إلى العالم بوحدة فلسطينية. لم تعد الأرض الموعودة بإعلان الدولة المستقلة في أيلول (سبتمبر) المقبل مشطورة بين قطاع وضفة. الدولة التي ستُعلن ستكون واحدة لفلسطين واحدة. وإذا كان لإدارة الرئيس باراك أوباما ما تقدمه إلى السلطة لتحريك المفاوضات قبل هذا الموعد بما يرضي طموحات الفلسطينيين، فلا بأس أيضاً. وأكد القيادي في «حماس» في غزة محمود الزهار ان الحركة لن تحاول منع «فتح» التي تقود منظمة التحرير الفلسطينية من التوصل إلى اتفاق سلام مع اسرائيل. عبّر الطرفان في اتفاق المصالحة عن الرغبة في استظلال راية الوحدة وترك التفاصيل موضوع الخلاف إلى ما ستحمله الأيام من تغييرات متسارعة في كل مكان. أي أن حكومة الوحدة التي سيتشاركان في اختيار أعضائها ستكون من المستقلين والتكنوقراط، لتكمل ما بنته حكومة سلام فياض في إعدادها الأرضية الصالحة واستكمال تجهيز المؤسسات لاستقبال الدولة العتيدة وإدارتها. أما الخلافات فأعطيت إجازة لسنة يظهر في أثنائها الخيط الأبيض من الخيط الأسود. مر زمن طويل كانت فيه إسرائيل تتصرف بارتياح ما دام الفلسطينيون تفرقوا وقسّموا الأرض بين قطاع وضفة. جاء الوقت لوضعها أمام مأزق حقيقي. وهي عبرت عن جنونها بهذه المفاجأة. لم تكن تتوقع المصالحة. وقد لا يكون مرد موقفها اتفاق الوفاق بقدر استشعارها بأن ثمة حلاً قد يطرح من أجل تحريك المفاوضات. لا تستطيع الولاياتالمتحدة ولا أوروبا أن تنتظرا طويلاً وتحتملا صلف نتانياهو ووزير خارجيته ليبرمان، فيما العالم العربي يموج بمتغيرات ستحتم على المجتمع الدولي إعادة النظر في علاقاته بالمنطقة، في كل المجالات، من قضية فلسطين إلى قضايا الأمن والنفط. بعض الدوائر في تل أبيب لا يزال يعتقد بأن الدولة الفلسطينية «إذا قامت كنتيجة لمفاوضات حقيقية مع إسرائيل ستجبر الفلسطينيين على الموافقة على أمور ثلاثة: التنازل عن حق العودة، والاعتراف بأن الاتفاق يتضمن نهاية النزاع والموافقة على أن دولة إسرائيل هي دولة يهودية. والفلسطينيون ليسوا مستعدين للتنازل في هذه الأمور، لذلك يغريهم كثيراً إمكان قيام الدولة بقوة قرار من الأممالمتحدة لن يطالبهم بالتنازل عن أي شيء»... كأن إسرائيل استماتت طوال عقد ونصف عقد من أجل إنجاح كل محاولات التسوية! مر زمن طويل كانت فيه واشنطن تحذر السلطة من إشراك «حماس» في أي حكومة وحدة وطنية. لكن الموقف الاوروبي الذي سيتعاون مع حكومة الوحدة الوطنية سيحرج إدارة باراك أوباما. فبقدر ما يعني ذلك اعترافاً متأخراً بشرعية الحركة التي حققت غالبية في انتخابات نيابية قال المراقبون الدوليون في حينه إنها كانت نزيهة وحرة، فإنه يعني أن «حماس» الموسومة «إرهابية» باتت شريكاً من دون أن تعلن قبولها شروط «الرباعية»: الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، وبالاتفاقات التي أبرمتها منظمة التحرير مع تل ابيب من أوسلو إلى اليوم، ونبذ العنف، أي وقف المقاومة. وباتت مراقباً لما تقوم به المنظمة في أي خطوة تعيد إحياء المفاوضات... إذا ضمّن الرئيس الأميركي خطابه عن المنطقة قريباً - قبل جولة نتانياهو - «مرجعيات» لأي محادثات جديدة: جدول زمني للمفاوضات، معالجة كل قضايا الحل النهائي، حدود 1967 مع تبادل أراض. المواقف المختلفة من المصالحة تظهر بوضوح ارتباك إدارتي أوباما ونتانياهو. الكرة في ملعبهما. لا يصلح التهديد الاسرائيلي بإجراءات انتقامية. ولا ينفع التلويح الأميركي بمعاقبة السلطة وقطع المساعدات. لا تنفع هذه اللغة في ثني السلطة. لم تنفع في منع أبو مازن من تأليف حكومة شراكة رعتها الرياض إثر انتخابات 2006. ولم تنفع في ثنيه عن توقيع الورقة المصرية للمصالحة قبل سنتين. ولم تنفع كل الضغوط التي مارسها أوباما شخصياً على الرئيس الفلسطيني عندما توجه إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار ضد الاستيطان. ولن تنفع كل المحاولات لمنع الفلسطينيين من استعادة وحدتهم... إذا باتوا على قناعة راسخة بأن هذه الوحدة هي من الثوابت لبقاء قضيتهم حية، ولبقاء العرب خلف هذه الوحدة ولدفع العالم إلى الاعتراف بقيام الدولة.