في كل مرة كنت أذهب فيها إلى مدينة جنيف كمراقب وشاهد على جولات التفاوض بين وفود المعارضة والنظام السوري، كان يحدوني الأمل بأن تسفر جولة التفاوض عن حلّ سياسي ينهي معاناة أهلنا في سورية، وينقذ ما تبقى من ناسها ومعالمها، ولكن، سرعان ما كان ينتابني شعور بالخيبة من أن الأمور لن تتغير، بل قد تذهب إلى الأسوأ، فأُصاب بغصة في القلب، ويجتاحني تشاؤم مرّ، فأعود وأواسي نفسي محاولاً لملمتها بالقول إن ما من معطيات أو مقدمات تدعو إلى التفاؤل بقرب الخلاص من القتل والدمار. ومثلي مثل سائر السوريين، أعرف جيداً نظام الأسد بنسختيه الأب والابن، فقد خبرناه على مدى أكثر من أربعة عقود مرة، بصفته نظاماً لا يمكن أن يقدم أي تنازل للناس ولا يؤمن بالحل السياسي، لكونه نظاماً مبنياً على عقيدة الاستئثار والتفرُّد بالسلطة، وقد بنى منظومات من القمع والقهر والضبط والمراقبة، يصعب تفكيكها إلا بالقوة، لذلك لن يقدم النظام على أي خطوة سياسية إلا تحت ضغط قوي، قادر على تهديد كرسي الحكم ومنظوماته وأجهزته الأمنية والميليشيوية. غير أن بعض السوريين وسواهم أعتقد أن الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف ستكون مختلفة عن سابقاتها، لكونها جاءت بعد فترة توقّف دامت أكثر من أربعة أشهر، شهدت خلالها تغيير تركيبة الهيئة العليا للمفاوضات وتشكيل هيئة ووفد تفاوضي جديد، عبر إدماج أعضاء من منصتي موسكو والقاهرة إلى جانب أعضاء من هيئة التنسيق والائتلاف السوري ومستقلين، ومع ذلك- على رغم الحيثيات والمماحكات العديدة- إلا أن الجولة الثامنة لم تختلف في محصلتها التفاوضية الصفرية عن سابقاتها، الأمر الذي يشي بأن القضية السورية قد تشهد منعرجات خطيرة، تنذر بمزيد من التأزم، والدخول في مسارات أشد ظلمة، وانتقالها إلى أوضاع قد تهدّد وحدة ومستقبل سورية والسوريين. واللافت أن المطلب الروسي بضم منصتي موسكو والقاهرة إلى وفد المعارضة قبل هذه الجولة، لم يعد كافياً بالنسبة إلى ساسة موسكو، بل تحول إلى ذريعة لدى وفد النظام السوري لرفض خوض مفاوضات مباشرة، والمطالبة بضم منصات وأطراف أخرى إلى صف المعارضة، مثل منصة حميميم وآستانة وحزب الاتحاد الديموقراطي الكردي الذي يعتبر نفسه طرفاً ثالثاً، ويسعى إلى تشكيل كيان فيديرالي بالقوة على المناطق التي يسيطر عليها في شمال سورية. ولعل الساسة الروس تمادوا في تشرطاتهم على المعارضة السورية بعد فشل الجولة الثامنة من المفاوضات، حين طالبوا بانضمامها وإعلانها جاهزيتها لمحاربة تنظيم «داعش» و «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة)، ودعم مخرجات مسار آستانة، المتمثلة بوقف الأعمال القتالية في مناطق سمّوها «خفض التصعيد» أو التوتر، واعتبروا أن وفد المعارضة حمل معه إلى جنيف موقفاً غير تفاوضي، عندما أشاروا في البيان الختامي لمؤتمر الرياض 2، إلى مغادرة الأسد مع بدء المرحلة الانتقالية، مع العلم أن البيان نفسه استدرك ذلك ملاقياً ومحابياً جماعة موسكو، من خلال تركه الباب مفتوحاً للتفاوض المباشر من دون شروط مسبقة لكل القضايا والإشكاليات، حيث اعتبر البيان نفسه «أن كافة المواضيع تُطرح وتناقش على طاولة المفاوضات، ولا يحق لأي طرف أن يضع شروطاً مسبقة، ولا تعتبر المطالبة بتنفيذ ما ورد في القرارات الدولية شروطاً مسبقة، أو يمنع طرح ومناقشة جميع المواضيع، بما فيها شكل الحكم ونظامه وصلاحيات سلطاته ومسؤوليه، بما فيها موقع رئاسة الجمهورية، والحكومة وغيرها»، أي أنه جعل منصب رئاسة الجمهورية مسألة تفاوضية، بالتالي حوّل مغادرة الأسد إلى مجرد وجهة نظر. وذهب الساسة الروس أبعد من ذلك من خلال مطالبة وفد المعارضة بالكف عن استخدام تعبير «وفد النظام»، واستخدام تعبير «وفد الحكومة السورية» بدلاً منه، في حين أن الأممالمتحدة نفسها تستخدم تعبير النظام السوري في العديد من وثائقها، لكن الحجج الواهية التي تذرع بها الساسة الروس والنظام السوري جعلتهم يتمادون في تشرطاتهم أمام ضعف المعارضة السورية، وفقدانها الدعم الدولي. وهو أمر تلقفه المبعوث الأممي الخاص إلى سورية ستيفان دي ميستورا، حين دعا المعارضة إلى أن «تكون واقعية، وتدرك أنها لم تكسب الحرب»، وكرر الأمر في الأيام الأخيرة من المرحلة الثانية من الجولة الثامنة من مفاوضات جنيف، حين اعتبر أن «المعارضة فقدت دعمها الدولي»، وطالبها بأن تكون أكثر واقعية وأن تتعامل وفق ذلك مع المعطيات، بل وحذّرها من أنها إذا شاركت في مؤتمر سوتشي المقبل من دون تحقيق تقدم في سلة الدستور خلال اجتماعات جنيف الحالية، فإنها «ستتلاشى وتضيع هناك». في المقابل، شهدت المرحلة الأولى من الجولة الثامنة في جنيف تغيّب وفد النظام عن اليومين الأولين من المفاوضات، ثم تغيبه خمسة أيام عن بداية مرحلتها الثانية، الأمر الذي دفع دي ميستورا إلى إعلان أنه سيحدّد من هي الجهة المعطلة للمفاوضات، لكن بعد فشل الجولة برمتها، لم يملك الجرأة الكافية للإقرار بفشل مسار جنيف التفاوضي الخاص بسورية، وذلك حفاظاً على مهمته ووظيفته، إلا أنه لم يستطع كبت أسفه على «ضياع فرصة حقيقية»، وراح يتحدث عن جهود بذلت، لكنها لم تفضِ إلى مفاوضات، واكتفى بإشارة خجولة إلى أن «النظام السوري لم يسعَ حقيقة إلى الحوار»، بدلاً من أن يحمله مسؤولية فشل هذه الجولة وسواها من الجولات السابقة، لذلك لم تسفه إشارته الباهتة إلى عدم اعتباره «حجج وفد النظام السوري، بخصوص طلب تخلي المعارضة عن بيان الرياض 2، منطقية»، لأنها في حقيقة الأمر شروط مسبقة، وضعها وفد النظام، بصفتها ذرائع للتملص من الاستحقاق التفاوضي، إلى جانب شروط أخرى، أهمها تلك المتعلقة ب «عقدة الأسد»، حيث يعتبر النظام أي حديث عن مصير الأسد خطاً أحمر، والحديث عن انتقال سياسي بالنسبة إليه مجرد وهم، ولن يحصل، وهذا ما عبر عنه رئيس وفد النظام بالقول أنهم لم يأتوا إلى جنيف لتسليم السلطة للمعارضة. ومن الأمور التي تستحق التوقف عندها ما كان يجري في كواليس جنيف من لقاءات ثنائية ما بين وسطاء ومسؤولي الملف السوري في الدول الغربية وسواها وبين رئيس وبعض أعضاء وفد المعارضة، وكان عنوانها ممارسة المزيد من الضغوط الديبلوماسية، كي تتخلى المعارضة عن مطلب مغادرة الأسد السلطة، بحجة التحلي بالواقعية السياسية، بالنظر إلى المتغيرات الميدانية وتغير مواقف الدول الغربية والإقليمية، وتجميد هذا المطلب حتى تتقدم عملية تسوية الملف السوري، معتبرين أن تجميد مطلب تنحي الأسد يدخل من باب «إحراج وفد النظام»، والدفع به للانخراط في مفاوضات مباشرة مع وفد المعارضة. ويتناسى الوسطاء الغربيون وسواهم أن النظام السوري يرفض بالأساس مبدأ التفاوض مع المعارضة، ولم يعترف بها، لأنه يرفض بالأساس أي حل سياسي يرضي جميع الأطراف، ويعارض حتى الدخول في منطق التسوية، في ظل انعدام أي ضغوط دولية عليه، ويراهن على الدعم الروسي والإيراني غير المحدود له، بل ويراهن على تضارب الأهداف والمشاريع ما بين الروس والإيرانيين، وتضارب المسارات ما بين جنيف وآستانة وسوتشي، بالتالي لن ينجح مسار جنيف التفاوضي، وقد استغل نجاح آستانة في تبريد الجبهات في بعض المناطق، واستخدمه غطاء لهجماته المتكررة على مناطق أخرى، بغية توسيع مناطق سيطرته. ذلك يحصل في ظل غياب تفاهم روسي- أميركي وإقليمي لأسس ومبادئ حل سياسي للقضية السورية، في حين أن الساسة الروس يحاولون، في أيامنا هذه، استثمار ما حققوه عسكرياً على الصعيد السياسي، من خلال التعويل على مسار آستانة، والتحضير لمسار سوتشي، الذي يريدون جعله محطة لشبه حلّ على طريقتهم للقضية السورية. في المقابل فإن الإدارة الأميركية غير جاهزة لملاقاة الروس، وليست لديها استراتيجية أو خطة واضحة حيال الوضع السوري، بينما كان المأمول أن تشكل أولوية «محاربة الإرهاب»، التي أسفرت عن دحر تنظيم «داعش» في معظم المناطق التي كان يسيطر عليها في سورية، أن تسهم في الدفع في شكل إيجابي في مسار جنيف التفاوضي، لكن الذي حصل معاكس تماماً، حيث أن كل طرف أعلن انتصاره على «داعش»، وصار يدافع عن مناطق سيطرته ونفوذه، معتبراً وجوده العسكري شرعياً، ويطالب بمغادرة قوات الطرف الآخر. بات السؤال هو: ماذا بعد فشل مفاوضات جنيف في جولتها الثامنة، هل سنشهد تدهور الأمور نحو الأسوأ، ونحو المزيد من التفكك والتعفن في الوضع السوري، ما بين التقسيم والفيديراليات والدويلات أو الكانتونات الفاشلة، أم أن الأمور ستشهد انفراجة ما؟ ليس هناك في الأفق السياسي ما يدعو إلى التفاؤل بحدوث الانفراج، خصوصاً في ظل تباعد أجندات وأولويات الكرملين والبيت الأبيض، حيث يأمل الساسة الروس في أن يحققوا حلاً سياسياً ما في العام المقبل، لذلك يدفعون بقوة نحو عقد مؤتمر سوتشي، وسيناقشون في اجتماع آستانة المقبل مع الساسة الأتراك والإيرانيين التحضيرات النهائية له، فيما لم يحسم الساسة الأميركيون أمرهم حيال القضية السورية، ولم يضعوا أي تصور حيال «عقدة الأسد» حيث تتضارب تصريحاتهم حولها بين الفينة والأخرى. كل ذلك يشكل عاملاً أساسياً للجوء ساسة موسكو إلى عرقلة مسار جنيف التفاوضي، وعدم الضغط على النظام للدخول في مفاوضات حقيقية مع المعارضة، فيما يستمر النظام في حربه الشاملة ضد غالبية السوريين، مستنداً إلى الدعم الروسي والإيراني، وهو يحضر في أيامنا هذه لاجتياح الغوطة الشرقية مع استمراره في حصارها وتجويع أهلها حتى الموت، ويستعد لهجوم شامل على محافظة إدلب تزامناً– وربما تنسيقاً- مع هجوم تنظيم «داعش» عليها. * كاتب سوري مقيم في تركيا