هل تذهب كارثة المفاعلات الذرية في فوكوشيما، باعتبارها نقطة تحوّل في علاقة البشر مع الطاقة النووية؟ فجأة، تغيّر الكلام عن الطاقة كلياً. ليست العودة الى النفط والغاز سوى الرأس العائم من جبل الجليد الضخم الذي يكوّنه النقاش المستعر في موضوع الطاقة. أهي محض صدفة أن يكتشف العلماء أخيراً أن ثقب الأوزون يساهم بدور أساسي في ظاهرة الاحتباس الحراري، التي عاد الجدل في شأنها أيضاً إلى التصاعد؟ فجأة، أخذت الفضائيات العالمية، خصوصاً «سي أن أن» و «سي أن بي سي» و «بلومبرغ»، تبثّ ريبورتاجات تتحدث عن خطورة الطاقة الذرية كمفهوم، بمعنى التذكير بأنها طاقة لم يتوصل الإنسان الى السيطرة عليها (ليس بعد)، ما يجعل مفاعلات توليد الكهرباء من الذرّة لعباً بالنار، وفق وصف تردد على غير شاشة عالمية أخيراً. كل ما قيل أخيراً كان معلوماً تماماً، ومنذ وقت طويل. لكن، يبدو أن «قشة» فوكوشيما اليابانية الثقيلة الوطأة، قصمت ظهر نقاش لم يتوقف منذ مطلع القرن، خصوصاً بعد أن قصفت الولاياتالمتحدة هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذريّة، قبل ختام الحرب العالمية الثانية. بعد أن تميّزت السنوات الثلاث الأخيرة، خصوصاً 2010، باندفاعة صوب الطاقة الذرية ومفاعلاتها، والقول إنها من الأشكال النظيفة للطاقة، عاد الكلام ليسير في الاتجاه المُغاير كلياً. ففي نموذج لم يعد فريداً، قرّرت الحكومة الإيطالية إلغاء خطتها لإحياء البرنامج النووي، مقترحة إلغاء مخططات سابقة لبناء محطات نووية جديدة في البلاد. وفي هذا الصدد، ذكرت وكالة «يو بي أي» للأنباء أخيراً ان الحكومة الإيطالية صادقت في آذار (مارس) الفائت على قانون يقضي بتجميد خطة لبناء محطات نووية جديدة لمدة عام، بعد الأزمة النووية في اليابان. ومع تصاعد حدّة تلك الأزمة، زادت إيطاليا في تشدّدها حيال الطاقة الذرية، بإعلانها السعي الى إلغاء جميع الإجراءات المتعلقة ببناء محطات نووية جديدة. وبقول آخر، تجاوزت الحكومة الإيطالية التجميد الموقت لبناء محطات نووية، لتصل إلى إلغاء برنامجها النووي فعلياً، وتالياً إلغاء الاستفتاء المقرر في 12 حزيران (يونيو) المقبل حول الموافقة على بناء محطات نووية لغايات سلمية. وفي بيان مشترك، أوضح روبرتو ديلا سيتا وفرانشيسكو فيرانتي عضوا مجلس الشيوخ عن الحزب الديموقراطي المعارض، أنهما في صدد وضع كلمة «النهاية» على الاستفتاء في شأن الطاقة النووية ومفاعلاتها. وجاء قرار إيطاليا تجميد الخطط المتصلة ببناء محطات نووية، بعد أقل من أسبوعين على الزلزال المدمّر الذي ضرب اليابان في 11 آذار (مارس) الفائت، مخلفاً أضراراً جسيمة في محطة فوكوشيما النووية التي تحوّلت سريعاً إلى بؤرة تتسرب منها الإشعاعات النووية. وفي زمن غير بعيد نسبياً، أقفلت إيطاليا محطاتها للطاقة النووية بعد انفجار المفاعل النووي في تشرنوبيل في الاتحاد السوفياتي السابق عام 1986 وتسبب بتسرب إشعاعات نووية بكثافة. في سياق متّصل، منحت مفوضية الاتحاد الأوروبي أوكرانيا مبلغاً إضافيا بقرابة 110 ملايين يورو (157 مليون دولار) من أجل بناء غلافٍ عازلٍ حول المفاعل النووي تشرنوبيل، ما رفع مساهمة دول الاتحاد إلى 470 مليون يورو (668 مليون دولار). كما أعرب رئيس المفوضية خوسيه مانويل باروسو، عن أمله بأن يزيد باقي الشركاء الأساسيين للاتحاد الأوروبي، من مساهماتهم لبناء الغلاف العازل بحلول عام 2015، إذ يتطلب بناؤه قرابة بليون دولار. مشكلة النفايات النووية تتجدّد في سياق الآثار المترتبة على كارثة فوكوشيما النووية، كشفت السويد أخيراً عن خطة لدفن 12 ألف طن من المخلفات النووية لمفاعلاتها، في حاويات نحاسية مقاومة للتآكل، على عمق 500 متر داخل طبقة صخرية بلورية. وقال خبراء في الطاقة الذرية ان من الممكن الاحتفاظ بتلك المخلفات النووية في أعماق نائية عن البشر، لمدة لا تقل عن 100 ألف سنة. وانطلقت هذه الفكرة، التي ما زالت بحاجة إلى موافقة نهائية، من خبراء «الشركة السويدية للوقود النووي ومعالجة النفايات»، وهي عبارة عن تجمّع لعدد من شركات الطاقة الذريّة في السويد. فبعد 3 عقود من البحوث، تعتقد المجموعة السويدية أن بلدة «أوزثامر» الواقعة وسط البلاد، تمثّل المكان الأفضل لدفن المخلفات النووية. وأشار خبراء الشركة إلى ان هذه الطبقة الصخرية تبلغ قرابة بليوني سنة من العمر، ما يجعلها مقبرة مثالية لدفن المخلّفات النووية. ونقلت بعض وسائل الإعلام ترحيب مواطنين في هذه البلدة بالخطة، لأنها قريبة من محطة نووية في فورسمارك. والمفارقة أن الدنمارك القريبة من السويد، كانت في صدد إعادة النظر من موقفها السلبي حيال الطاقة الذرية، الذي تكرّس منذ عقد الستينات من القرن الماضي. وحينها، نقلت الدنمارك مفاعلاً نووياً إلى السويد. وبعد الكارثة اليابانية، خفتت حدّة الأصوات التي كانت تنادي بعودة الدنمارك الى خيار الطاقة النووية. وفي سياق غير منفصل، كشفت شركة «تيبكو» اليابانية التي تشرف على مفاعلات توليد الطاقة الكهربائية في محطة فوكوشيما الذرية، عن صور لدواخل ثلاثة مفاعلات فيها. وقد التقط روبوت هذه الصور، التي يفترض أنها تساعد في فحص حال مباني المفاعلات من الداخل. وفي المقابل، بيّنت «تيبكو» أن شيئاً يشبه لوحاً من الفولاذ، منع دخول الروبوت الى أعماق المباني. وأوضحت «تيبكو» أيضاً ان المرحلة الاولى لخفض النشاط الاشعاعي تحتاج الى ثلاثة اشهر. وبعد انجازها، تبدأ عملية خفض انبعاث الاشعاعات الى مستوى منخفض جداً، عبر عملية ربما احتاجت ما يتراوح بين 6 و9 شهور. وبعد مرور ربع قرن على كارثة تشرنوبيل، أعربت الإختصاصية الذريّة دانا درابوفا، وهي مديرة مكتب الأمن النووي في جمهورية تشيكيا، ان ما جرى في تشرنوبيل كان يجب أن يعطى الدرجة الثامنة أو التاسعة على مقياس الكوارث النووية، وليس الدرجة السابعة، كما حدث حينها فعلياً! وتعتبر درابوفا من أبرز علماء الذرّة في أوروبا، ولذا أحدث كلامها «المتأخر» عن مفاعل تشرنوبيل، ضجة تردّد صداها في أرجاء تلك القارة. والمعلوم أن اليابان رفعت درجة الخطورة المتصلة بالكارثة النووية في محطة فوكوشيما إلى الدرجة السابعة، التي تعتبر الأعلى في مقياس الكوارث النووية، ما وضع كارثتي تشرنوبيل وفوكوشيما على الدرجة عينها من الخطورة. ولكن، تبيّن أخيراً أن كارثة تشرنوبيل كانت أشد وطأة، وأن ما تنفثه محطة فوكوشيما من أشعة نووية يقل بعشر مرات عما أصدره مفاعل تشرنوبيل عند انفجاره. لماذا صمتت تلك الأصوات العلمية لربع قرن؟ وكيف؟ ولماذا عاودت النطق؟ أسئلة تحتاج الى تأمّل معمّق. [email protected]