بعد خمسة أسابيع على تفجر الاحتجاجات الشعبية في سورية، ليس هناك ما يؤشر إلى أن السلطات السورية تتبين مغزاها السياسي، أو تدرك ما الذي يغضب قطاعات متسعة من السوريين ويدفعهم إلى الاحتجاج ضدها، مجازفين بأمنهم، وبحياتهم أحياناً. ما الذي يهين السوريين؟ ما الذي يدفعهم إلى التحدي بعد طول استكانة؟ أكثر من أي شيء آخر فقدان الحرية، وبالتحديد إمكانية الاعتراض على أوضاعهم وتنظيم قواهم لتغييرها. هذا كان صحيحا دوماً، لكنه أضحى محسوساً في السنوات الأخيرة بفعل تلاقي انسداد الآفاق الداخلية في البلد وثورة الاتصالات والمثالين الإيجابيين في مصر وتونس. السوري العام محروم من قول لا للسلطة التي هي الفاعل الأكبر، وأحياناً الأوحد، الذي يضيّق مساحات المحكومين مبادرة وتحركاً. من يقول لا علانيةً يخسر كثيراً، ربما عمله، وربما حريته، وربما حياته ذاتها. ليس لذلك السوري العام كيان سياسي معترف به. الواقع أن النظام يقوم جوهرياً على إنكار الوجود السياسي للسوريين كمواطنين مستقلين، قادرين على التنظيم والاعتراض والمنازعة. أي أيضاً أن يكونوا طرفاً أو أطرافاً سياسية في بلدهم. وأية جهود تبذل في هذا الاتجاه يجرى قمعها بقسوة بالغة، خبرها فعلاً عدد كبير من السوريين. وما يستخلصه عموم الناس من هذه الخبرات المتواترة أنه لا شأن لهم سياسياً، أو باختصار أنهم أدنى مرتبة من حاكميهم، وليسوا مساوين لهم. أو أيضاً أن هناك من هم أسياد في البلد، ومن هم أتباع. وعلى هؤلاء الرضوخ لوضعهم، الآن ودوماً. هنا منبع المهانة العام. وما يسبغ طابعاً متطرفاً على النظام السياسي في سورية إنكاره وجود أو شرعية وجود أطراف سياسية أخرى في الداخل، ومثابرته على اعتبار نفسه كل الأطراف. هذا رغم أن الدولة توصف صراحة بدولة البعث، أي دولة حزب بعينه. وهذا بالضبط ما يحكم على «الإصلاحات» التي يلوح بها النظام أن تبقى أسيرة النطاق الإداري الإجرائي، حتى حين تتطرق إلى شؤون سياسية مثل حالة الطوارئ وقانون الأحزاب. السياسة شأن تفاعلي، يفترض أطرافاً متمايزة، ومتنازعة. في واقع الأمر، يتصرف النظام ككيان صلب متماسك، أمامه هلام، طيف لا قوام له ولا كيان، يجرى إعدامه لحظة الإقرار بوجوده: «مندسين»، «عملاء»، «إرهابيين»، «سلفيين». فإذا تمت إزالة هذه الشوائب الفاسدة، استعيد التناغم والانسجام الوطني الذي هو الحالة الطبيعية للأمور. التعبير المفضل في سورية عن هذه الحالة هو «الوحدة الوطنية»، وهذه لا تعني غياب المنازعة السياسية فقط، وإنما الولاء الصريح للنظام أيضاً. يحكم هذا المنطق على أي سياسيين مستقلين ومعارضين بالنفي من «الوطن» لخروجهم على «الوحدة الوطنية». ويجرى نفيهم بالفعل إلى السجن، أو خارج البلاد، أو إلى الصمت، أو إلى التعطل والشلل. وتتولى القيام بمهمة التعطيل السياسي للسوريين أجهزة الأمن، هذه التي تشكل التجسد الأتم للاحرية واللاأمن. ومعلوم أن النظام تعامل دوماً مع المعارضين الداخليين عبر هذه الأجهزة حصراً، وليس عبر أية مؤسسات سياسية. والغريزة المتأصلة في جسد تلك الأجهزة هي تفكيك أية أطراف سياسية داخلية. ينبغي أن يبقى الداخل الوطني متحللاً، سائلاً، عديم التشكل، لا حياة سياسية فيه. «الوحدة الوطنية» بالمفهوم السائد في سورية هي غياب الحياة السياسية تماماً. لكن لندقق قليلاً في مفهوم الوحدة الوطنية المعتمد. كان لافتاً أن السلطات وعدت بتلبية مطالب كردية عبر وجيه عشائري لا وزن له في بيئته. وتعاملت مع درعا كما لو أنها ذات مطالب خاصة. ومع بانياس كذلك. وعبر الشيخ البوطي أعلنت إعادة المعلمات المنقبات إلى التعليم، وعزمها على إطلاق قناة فضائية دينية (الأمر الذي لم يكن مطلباً معلوماً لأي كان في البلد). هذا كله يقول إنها تفكر في السوريين كمناطق وجماعات وأديان، أي كروابط أهلية، لا كشعب ومواطنين. يقول أكثر إن السلطات والهياكل السياسية القائمة تعمل على تثبيت هذا الوضع عبر الاعتراف به وحده، والتعامل معه وحده، بدل ما ينتظر من «الدولة» من بذل الجهد لتغييره، والعمل على «صنع» الشعب السوري. بالمقابل، لم يحصل يوماً أن خاطبت السلطات، أو تفاعلت مع، قيادات سياسية مستقلة أو ناشطين مدنيين أو مثقفين، أي النخب المنشغلة مبدئياً بالعام الوطني. لماذا؟ بالضبط لأن هؤلاء الأخيرين يفكرون على النطاق الوطني العام، ويصدرون عن تصور السوريين كشعب، لا كجماعات أهلية. وكذلك لأنهم مستقلون، عن الروابط الأهلية، كما عن النظام طبعاً. والواقع أن الاحتجاجات الشعبية أظهرت أن السوريين مواطنون وشعب أكثر مما تتخيل الثقافة السياسية لنخبة السلطة، وأكثر مما تستوعبه الأطر السياسية القائمة، الركيكة والخالية من المضمون. وبمحاكاة اللغة الماركسية، قد يمكن القول إن التناقض بين تقدم السوريين السياسي وبين الأطر السياسية المتخلفة التي لا تكاد تعترف بهم إلا منسوبين إلى روابط أهلية، هو أحد محركات الاحتجاجات الشعبية. النشاط الاحتجاجي بذاته، وبطابعه السلمي، مؤشر إلى التقدم السياسي، ومضامين شعارات المتظاهرين والمعتصمين وهتافاتهم تؤكد الشيء نفسه. إن صح ذلك، على ما نقدر، كان ما يتطلع السوريون إلى التحرر منه هو هياكل سياسية أمست مصدر إعاقة وطنية، هياكل تنكر عليهم المواطنة والمساواة، وتحول دون تقاربهم، ونهوض بلدهم، وترقّيهم الوطني والأخلاقي والسياسي. هذا فوق أنها لا تعترف باستقلال عقولهم وضمائرهم، ولا تقر لهم بحرمة إن هم نازعوها في شأنهم العام، فوق أنها تتعامل معهم بقسوة مذلة، تقول لهم بألف لسان لستم مساوين لنا، نحن «النظام»، ولن نقبل بكم أنداداً. أبعد من ذلك، يعطي سلوك النظام الرافض للاعتراف السياسي بغيره في البلد الانطباع أنه يملك البلاد، وليس يحكمها فقط. ما يُحتمل أنه عزز هذا الانطباع في السنوات الأخيرة هو التحولات الاقتصادية، المؤثرة على حياة السكان جميعاً، والتي جعلت أغنياء السلطة جزءاً من النخبة العليا النافذة. هذا فضلاً عن مؤشرات رمزية وفيرة تنسب البلد إلى الحزب الحاكم أو إلى الرئيس. وعليه قد يمكن قراءة الاحتجاجات الشعبية أيضاً بأنها تطلع من السوريين إلى امتلاك بلدهم أو نزع ملكيتها من الأوليغاركية المسيطرة. وقد ينطوي ذلك على إدراك ضمني بأن السوريين لا يتكونون أمةً، أي كشعب، دون تأميم بلدهم. أخيراً، تترتب على هذه المناقشة نتيجة عملية متصلة بالانتفاضة الراهنة: على السلطات أن تعترف بوجود وشرعية خصومها السياسيين، وأن تتفاوض معهم. بدءاً من هنا يمكن لعبارة «إصلاح سياسي» أن يكون لها معنى ما. غير ذلك هو تضييع للوقت.