قبل نحو عشرة أعوام، نشر محمد الفخراني روايته الأولى «فاصل للدهشة»، وهي عن قاع مجتمع القاهرة وما دونه. رواية صادمة في لغتها وعالمها الذي يفزعك على رغم المعرفة السابقة بوجوده. وعام 2010 نشر الفخراني مجموعته القصصية «قبل أن يعرف البحر اسمه»؛ عن عالم فانتازي، ثم «قصص تلعب مع العالم»، التي فازت بجائزة الدولة التشجيعية في القصة عام 2013، ثم نشرت مجموعته «طرق سرية للجموح» عام 2015. وأخيراً صدرت روايته الثانية «ألف جناح للعالم» عن «الكتب خان»، ثم مجموعته «عشرون ابنة للخيال» عن «مؤسسة بتانة». في عمله الأخير، يواصل الفخراني التحليق، وكأنه لا يعيش على الأرض. يحكي عن ولد له أدراج خشبية يخبئ فيها أهل قريته أسرارهم وأشياءهم الخاصة، عن فتاة لها نافذة في بطنها، عن رجل يحمل في صدره بيانو! هنا حوار معه: قصص «عشرون ابنة للخيال» رغم عوالمها الفانتازية، تبدو وكأنها واقعية جداً، والأمر نفسه ينطبق على محموعاتك القصصية الأخرى وعلى رواية «ألف جناح للعالم»... كيف تفعل ذلك؟ - أنا لا أضع هذا الحدّ، أو الفاصل، بين الواقع والخيال، حتى في حياتي العادية، أنظر لهما على أنهما من مكونات العالم، لهما الدرجة نفسها من الرسوخ والتحليق، وأُصدِّق جداً أنه بمجرد ظهور فكرة في قلب إنسان ما أو عقله، فقد صار لها وجود حقيقي في مكان ما، حتى لو لم يرها بنفسه. في كل كتاب أكتبه أعتبر أني أضفْتُ مساحة إلى عالم أخلقه، أعتبر أن كل الشخصيات والأحداث التي كتبتُها تعيش الآن في مكان ما، وتمارس حياتها الخاصة، والمشتركة، ثم مع كل كتاب جديد، أضيف مساحة جديدة، وشخصيات لهذا العالم، أنا كل ما أكتبه، وبالمناسبة، هناك في الكتابة ما هو غير الواقع والخيال، وأيضاً بلا حدود ولا فواصل بين أي منها. بعد روايتك الأولى أنجزت ما يمكن اعتباره ثلاثية قصصية: «قبل أن يعرف البحر اسمه»، «قصص تلعب مع العالم»، «طرق سرية للجموح»، ثم كتبت رواية «ألف جناح للعالم»... هل جاء ذلك ضمن مشروع أدبي خطّطت له؟ - مع كتابتي لمجموعتي «قبل أن يعرف البحر اسمه» لم يكن لديّ تخطيط لمشروع الثلاثية القصصية، حتى وإنْ شعرتُ بأن هناك شيئاً أكبر من مجموعة واحدة، ثم بعد أن انتهيتُ منها، رأيت بوضوح أن الفكرة لا تزال لها بقية، الجملة لم تكتمل، كتبتُ مجموعتين بعدها، وكنت أخطط لرواية تُكمل هذا المشروع، لكن أثناء كتابتي المجموعة الثالثة «طرق سرية للجموح»، تأكَّدْتُ أن هذا المشروع اكتمل هنا، وأي فقرة أخرى ستكون زائدة عنه. في «ألف جناح للعالم» كانت فكرتي الأساسية أن أُنشئ عالماً خيالياً من بدايته إلى نهايته، من خلال فكرة يمكنني بها أن أَلغي عالمنا القائم، أو أُعطله، أمحو ذاكرته، وأُنشئ عالماً بروح وألعاب تخصه، ليس كنوع من الرفض للعالم الموجود بالفعل، ولكن كنوع من الحلم، اللعب، وتقديم اقتراحات جديدة عن الممكن، وما قد يكون موجوداً في عالمنا ولا نعرفه، أو نتوقعه. «ألف جناح للعالم»، نصّ قائم بذاته، وفي الوقت نفسه له علاقة حتى بكتابي الأول، وما سأكتبه بعد ذلك، الكاتب يتنقَّل بين عوالم وتجارب كثيرة، ويبقى شعاع من روحه يضم كل هذا معاً. بدأت برواية واقعية مؤلمة، ثم انتقلت بعد ذلك إلى عالم آخر تماماً حيث الخيال الطائر بأجنحة لا تنكسر مطلقاً عبر ثلاث مجموعات قصصية، ثم رواية، ثم مجموعتك الأحدث «عشرون ابنة للخيال»... حدثني عن هذا الانتقال من الواقعية الصرفة إلى الخيال الهائم؟ - قبل أن أشرع في إصدار أي عمل أدبي، أبدأ بنصّ «إنساني»، عمل قصصي أو روائي، يكون فيه الإنسان هو البطل، وأحاول ملامسة فكرة «الإنسانية» بصورة ما. بدأت بإصدار «بنت ليل»، وهي قصص عن عالم المهمشين، في لغة بها روح شاعرية، ورغم قسوة المشاهد القصصية في بعض قصص المجموعة، إلا أنني كنت أُبرز لحظات السعادة البسيطة في حيوات شخصيات هذا العالم، ثم جاءت «فاصل للدهشة» عن عالم أكثر هامشية، وضِمن ما قيل عنها وقت صدورها أنها رواية عن عالم ما بعد القاع، لكن، بالنسبة لى هي عمل «إنساني» بالدرجة الأولى، يحوي نماذج إنسانية أحببتها، مثلما أحب كل شخصياتي، في «فاصل للدهشة»، بشر يحصلون على حيواتهم يوماً بيوم، وربما ساعة بعد ساعة، وضعْتُ داخل هذه الرواية جانباً كبيراً من إحساسي الشخصي بالتعاطف مع «الإنسان»، والوقوف إلى جواره، ومحبته. بعد «فاصل للدهشة»، كان من السهل أن أُكمِل في عالم الهامش، لديّ قصص وأفكار عن هذا العالم، لكن لم يكن هذا ليُمثل تحديا فنيا لي، ولن يُقدِّم جديداً، كان لا بد أن أنتقل إلى عالم جديد، وتجربة جديدة على المستوى الفني، والإنساني أيضاً. كتبتُ مجموعة «قبل أن يعرف البحر اسمه»، وهي الأولى ضمن ثلاثية قصصية، يمكن قراءة كل مجموعة منها من دون الرجوع لأختَيْها، وفي الوقت نفسه هناك خيوط تجمعها معاً. حاولتُ في هذه الثلاثية إعادة تشكيل العالم، وتخيَّلْتُ علاقات بين مفرداته، كائناته، ومشاعره. كنتُ أستمع إلى العالم وأراه بقلبي وخيالي، وقد منحني الكثير داخل هذه المجموعات الثلاث، كان كريماً جداً مثلما توقَّعتُ. لماذا لم تخرج بعدُ مِن الكتابة الخيالية الهائمة هذه؟ - لأني في كل مرة أُضيف جديداً إلى المساحة التي كتبتها سابقا. لم أنتَهِ بَعْد من الغابة التي دخلتُها، أو ربما أنشأتُها بنفسي، أفكر أني أحاول هنا تشكيل شيء لا يُصنَّف تحت أي من اللافتتين الشهيرتين: واقع أم خيال. واجهت روايتك «فاصل للدهشة» بعض الانتقادات لاحتوائها على ألفاظ وصفها البعض بأنها «خادشة للحياء»... هل ترى أننا ما زلنا نعاني من نظرة المجتمع العربي للأدب؟ - أثناء كتابتي «فاصل للدهشة» كنت أعرف أن هذا لا بد أن يحدث بعد صدورها، لا يمكن أن تمرّ هكذا. لم أتعمد أثناء الكتابة خلق حالة من «الصدمة»، فقط قدَّمْتُ مساحة من عالم هامشي يغلي، لم تكن هناك طريقة أخرى لكتابته، بدا أثناء الكتابة أن الشخصيات نفسها تقول لي: «اكتب عني بهذه الطريقة»، «اجعلني أنطق تلك الكلمة»، «اجعلني أتصرَّف بهذا الأسلوب»، كتبتُ ما صدَّقته إنسانياً وفنياً، لم يكن بإمكاني، ولم أحب، أن أستبدل أحد تلك «المفردات» بغيرها، برأيي أنه لا توجد كلمة يمكنها أن تملأ مكان كلمة أخرى، لا توجد مترادفات في اللغة، على الأقل «اللغة الأدبية»، كما أن الألفاظ «الخادشة» للحياء هي تلك التي في غير موضعها الفني، وليس لها معنى في سياق النصّ، يمكن لكلمة مثل «وردة»، أو «سماء»، أن تكون «خادشة» لو أنها بلا ضرورة أو معنى فني. «نظرة المجتمع»، لست مشغولاً بالتفكير أو تحليل تلك «النظرة»، وبرأيي أن الأدب قد تجاوزها، أو من المفترَض أنه مُتجاوزٌ لها بطبيعته، كما أن هناك أجيالاً من القُرَّاء تجاوزت تلك الأفكار الضيِّقة عن الأدب. لماذا انتظرت عشر سنوات حتى تكتب روايتك الثانية؟ - كنت أكتب. مقابل كل كتاب أنشره، هناك كتاب لم يُنشَر. كما أني انشغلْتُ بالثلاثية القصصية. كانت عالماً مغوياً جداً. في الوقت نفسه كنت أراقب من بعيد تلك الرواية التي تتشكَّل بداخلي، ثم عندما بدأتُ كتابتها توقفتُ غير مرة، في ثلثها الأول، أو منتصفها، وأعدْتُ ما كتبته، حتى بعد أن أنهيتها، أعدْتُ كتابتها بأسلوب مختلف، والكثير من الأحداث المغايرة. لديّ نسخة أخرى من «ألف جناح للعالم» تختلف عن التي تم نشرها. نسمع طوال الوقت عن الشاعر الذي يتحول لكتابة الرواية في حين لا يحدث العكس فلا نجد روائياً ينصرف لكتابة الشعر... لماذا لا يكتب الروائيون الشعر؟ - أعتقد أن كل الروائيين كتبوا الشعر في فترة ما، تحديداً في بداية حياتهم الأدبية، لكن بعد أن يقطع الروائي شوطاً في عالمه السردي، سيسأل نفسه لو أنه فكر في نشر ديوان هل سيضيف هذا الديوان شيئاً إلى الشعر؟ هل سيكون إضافة لمنجزه الأدبي، أم مجرد كتاب إضافي؟ لكن، ربما لا يتوقف الروائي عن كتابة الشعر، السؤال، هل ينشره أم يحتفظ به؟ إذاً، الشعر مهم جداً لديك ككاتب وتعتمد عليه في تشكيل عالمك؟ -الشعر أساسي جداً في عالمي، وأقرأ منه تنويعات كثيرة قبل الدخول في كتابة نصّ سردي جديد. حصلت على جوائز عدة، فهل ترى أن تأثير الجوائز يمكن اختزاله فقط في القيمة المادية أم أن له مردوداً معنوياً على الكاتب؟ - للجوائز أيضاً مردود معنوي، لكن بالطبع ليس الحصول، أو عدم الحصول عليها مناط تقييم الكاتب أو الكتابة. الجوائز يمكن أن تتجاوز كاتباً ما، لكنه هو نفسه سبق وتجاوزها. ما هو تعريف الرواية عندك؟ - ليس لديّ تعريف للرواية، لكني أحاول في كل نصّ أن أكتشف عالماً جديداً، أو أن أُضيف مساحة جديدة في عالم قدَّمْتُه من قبل. هناك أفكار عن الكتابة غير صحيحة بالمرة، مثل أنه لا جديد، وكل موضوعات الكتابة محددة، أو كُتبَتْ بالفعل، وفقط يتم تقديمها برؤى مختلفة. هذه أخطاء كبيرة وليست أفكاراً. هي حتى ضد منطق العالم، وطبيعته. ولو كان الأمر كذلك فما الداعي بالأساس للكتابة، وكيف يمكن أن نُسمِّي ما نكتبه إبداعا»، هناك دوماً طريق لم يُكتشف بَعْد، وعالم جديد ينتظر، أو يمكن اختراعه. ولماذا تكتب القصة القصيرة؟ - القصة شابة، جميلة، ذكية، متمرِّدة، ولا تكبر في العمر، يمكنها أن تخطف حياة كاملة في طرفة عين، تخترع عالماً بضحكة واحدة منها، جريئة، طموح، لا تهتم بالشائعات السخيفة التي يُطلقونها عليها من وقت لآخر، لديها كبرياؤها الخاص، لا يمكن العبث معها، غير متهافتة، لا تُقدِّم تنازلات، عصبية، لا تقبل بأشباه الحلول، صعبة المراس والإرضاء، هي لعبة لا يمارسها غير السحرة الحقيقيين، وهي أكثر أشكال السَّرْد توقًا إلى الكمال، إذاً، كيف لا أحبها، وأكتبها.