مذيعة خائفةٌ ومُرْبكة هكذا أقف، أتطلع في وجوه الحاضرين والحاضرات، أبحث عن وجه أسكن إليه، وجه يمتص خوفي ارتباكي، ألمحك في الركن الأخير من الصف الأول، فيزداد ارتباكي، تبتسم لي وتهز رأسك مشجعاً، فأتذكر كلماتك التي قادتني إلى هذا المكان: «صوتك إذاعي، ولغتك راقية، ستكونين مذيعة الجامعة وصوتها الأجمل». اليوم أقفُ في أول اختبار حقيقي لأقدم هذه الحفلة، أعلم أنك أنت الذي رشحتني لهذا الموقف وها أنا ذي أقرأ في عينيك قلقاً تخفيه، وتبدي في ابتسامتك المصطنعة ثقة يصلني رذاذها. آخذ نفساً عميقاً أشعر أن الجميع سمعوه. أهربُ بعيني بحثاً عن منى، ألمحها في ركنها المميز في الصف الأخير تبتسم فأبتسم وتهرب كل مخاوفي، أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم في سري، وأبدأ باسم الله ... «حين تصعدين إلى المنصة كوني الأقوى، لا تنظري لأحد، لا تخافي من أحد» كل الوجوه أمامي تتلاشى، تغيب في صدى صوتك وابتسامة منى. حنين كل سنة تقريباً يرى الحلم نفسه، منذ خمس سنوات وهذا الأمر يتكرر حتى بات ينتظره، ويفتقده إذا تأخر: يسمع أذان الفجر، ويرى نفسه يتثاقل في النهوض، ثم ما يلبث حتى ينهض، يتجه بسرعة إلى الحمام، حمام والده القديم في طرف الحوش من الجهة الشمالية الشرقية، يقف شعر جسمه كله، وتثقل حركته، يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويقرأ آية الكرسي، يتوضأ وهو يرتجف خوفاً ويشعر أن المكان مليء، وأن حوله من يتحرك، ثم يخرج بسرعة من المكان، وفي الطريق إلى مسجدهم القريب يلتقي برفاقه في الحارة، يكبر الإمام للركوع فيجرون بسرعة للحاق بالركعة، وقبل وصولهم إلى الصف يقول الإمام: (سمع الله لمن حمده)، ينظرون إلى بعضهم ويتضاحكون بهمس مسموع، يلتحقون بالطرف الأيمن من الصف الأول، وتبدأ لعبة المدافعة وتغيير الأماكن، يتضايق الكبار من حركاتهم الطفولية، ويتوعدونهم في نفوسهم بالعقاب، يسلم الإمام، فينهضون لإكمال الركعة التي فاتتهم، يسلمون، ويخرجون بسرعة متناهية قبل أن يطا لهم أي عقاب، لكنهم يفاجؤون بالإمام في انتظارهم أمام الباب وفي يده خيزرانة صغيرة يلوح بها، فيتقافزون، ويفرون من بين يديه وهو يضحك (شياطين). وفي كل مرة توقظه زوجته وهو يبتسم، وتقول له: الحق الفجر ينهض بتثاقل، يجلس على طرف السرير ليتمطى، ويحاول أن يتذكر ملامح بيتهم القديم فلا يرى سوى الصورة التي رآها في الحلم، يحاول أن يتذكر ملامح رفاق الطفولة الذين تفرقت بهم الأحياء الجديدة والمدن البعيدة، فلا يرى سوى ما رآه من ملامحهم في الحلم، يزيح الستارة، ويفتح النافذة فلا يسمع أصوات الصلاة، ويرى انبلاج ضوء الصباح. يسير بخطا متثاقلة إلى الحمام، يتوضأ، ويفرش السجادة في غرفة النوم، يصلي ركعتي الفجر، ويعود إلى فراشه، يتدثر ويحاول استكمال ما رآه ... البحرين : 1 شباط (فبراير) 2011 * أكاديمي وقاص سعودي.