إنه ذلك النوع من التعاطف الأخلاقي الاجتماعي والانهزامي في الوقت نفسه، الذي صاغ منه الكاتب السوداني أمير تاج موضوع روايته «تعاطف» الصادرة حديثاً عن الدار العربية للعلوم - ناشرون، ومدى ارتباطه بالوجود الذاتي والشعور بالمسؤولية غير الإرادية تجاه الآخرين. وهذا ما حفّز لحظات شعورية، أدت إلى التعاطف مع مواقف معينة، جاءت على صورة مجموعة من الدوافع والانفعالات الداخلية والعاطفية، التي قد تكون ضعيفة عند بعضهم، ولكنها بدت واضحة المعالم والآثار في شخصية الرواية الرئيسة: «قسم السيد محارب»، الذي كان يعمل حارساً لبوابة فندق «سواري» طوال اثني عشر عاماً. وهو اقترب من السادسة والثلاثين من عمره، ولم يكن لديه طموح بغدٍ أفضل أو أحلام بالتغيير. إلا أنه كان أسير حالات من التعاطف الإنساني والاجتماعي، التي رافقته في مسيرة حياته، ووضعته في مواجهة مواقف ليست من مسؤولياته. وكثيرة هي الحكايات التي واجهته أثناء تأديته عمله، فحركت مشاعره ودفعته إلى التطوع لخدمة الآخرين ومساعدتهم من دون مقابل، والتي تطلبت منه بذل الكثير من الوقت، والجهد الجسدي والعاطفي والمعنوي، بالإضافة إلى المال الذي لم يكن يملك منه الكثير. يتصدّى أمير تاج من خلال محارب، للصراع مع الذات، التي تتجاذبها قوى مجهولة، مصدرها دوافع داخلية تتطلب نوعاً من ردود فعل فورية ومباشرة، من خلال التركيز على حاجات الآخرين بغض النظر عن الرغبات الشخصية، ربما سعياً للحصول على متعة العطاء أو الوصول إلى الراحة النفسية، وعلى الأكثر، هروباً من واقع «راوح مكانك» الذي كان يعيشه السيد محارب. فهو كان يتعاطف مع قطة هائمة، وكلب ضائع أو ضحايا القمع السلطوي والحروب الأهلية وغيرها من القضايا. تعاطف السيد محارب بشدة، مع الصيني «جاو جيانج» أحد نزلاء فندق سواري، الذي كان يلاحق النساء بشغف، وهمه البحث عن بيوت اللذة المفتوحة. ولم يفرّق في شبقه بين «كريستي» ذات الستين عاماً أو «رضينا» خادمة الغرف. وكانت نهاية «جاو جيانج» مأسوية، حين تم العثور عليه بلا رأس في مزرعة مهجورة في الضواحي. وانتقل محارب من حالة تعاطف عادية نحو جيانج، إلى حالة تعاطف مذهلة نحو «سميتا باكار» المرأة الغانيّة، التي كانت تعتقد أن ثمة جنيّاً يسكنها، وجاءت بحثاً عن معالج صوفي يتعامل مع عالم الجن، يملك القدرة على تخليصها منه، ولكنها أضاعت اسمه وعنوانه، وحين طالت فترة إقامتها في فندق سواري، طردتها إدارته بعد أن نفد مالها، فقرر محارب أن يتولى مهمة مساعدتها وإنقاذها، ثم أطلق على هذه المهمة الجديدة اسم: «إغاثة امرأة ضائعة»، وكي يقوم بها على أكمل وجه، كان عليه إلغاء مناوبته في ذلك اليوم، فهو لا يستطيع العمل، والتعاطف فائر في دمه، ومهمة إغاثة امرأة ما زالت في بداياتها، ولا يمكنه إكمالها بلا تفرغ. لم يخلُ أسلوب أمير تاج من لغة النقد التهكمي والساخر للمجتمع حين قصّ علينا أحداث الهرج والمرج والحفاوة، التي رافقت وصول ثلاثة أفارقة، على اعتبار أنهم رجال مهمون في بلادهم، فتجمع سكان الغرف لتحيتهم، ولاحقتهم آلات التصوير من مكان إلى آخر. وتبين في ما بعد أن أهميتهم تأتي من كونهم بلا أهمية؟! فهم أشخاص أنشأوا منظمة أهلية أطلقوا عليها اسم «منظمة غير المهمين» مهمتهم السفر والتنقل حول العالم لحصد الأتباع والدعم. كما حرص أمير تاج على إظهار مساوئ المجتمع بصورة غير مباشرة، حين عبّر عن سبب تعاطفه مع الصيني «جيانج»، الذي كان يجهل أن الأرض التي وطئها لم تكن بكراً، بل أرض مفخخة؛ سكانها يضطربون حين يسمعون نبأ تظاهرة تحتج على الغلاء، فاضطر رجال الأمن للتصدي لها وتفتيتها، أو خبراً عن «حافلة ركاب سقطت في النيل، من جسر بلا حواجز واقية». وعن مكانة المرأة في المجتمع الذكوري قال: «وامرأة حوكمت بالجلد، لأنها سعلت في مجتمع كان فيه رجال يهيجهم السعال». وعلى الرغم من حرص أمير تاج، أثناء كتابته رواية «تعاطف»، على عدم إغفال تسجيل أخبار الاحتجاجات والثورات التي تجتاح عدداً من الدول في الوطن العربي، إلا أنه خلط بين حدث حصل في أيار الماضي، فيما يختص بجريمة تصدي الطائرات الإسرائيلية لأسطول الحرية، وثورة تونس الشعبية، اللتين كان يفصل بينهما قرابة نصف عام على الأقل: «والصيدلاني المساهر، لايزال على مقعده، يتابع نشرة صباحية على البي بي سي، وكان ثمة خبر عريض، عن سفينة إغاثة متجهة إلى فلسطين، ضربتها طائرات إسرائيلية، وثورة شعبية جارفة، تحدث الآن في تونس»؟! صاغ أمير تاج شخصيات روايته من خلال أبعادها النفسية والاجتماعية، بالإضافة إلى تأثيرها وتأثرها بمحيطها. فظهرت صورة «الكونتيسة» الأثيوبية، التي كانت تدير بيتها «للشبق السري»، تحت غطاء المعارض الفنية، وتصفيف الشعر، وعجن الحناء وزخرفتها على أيدي النساء وسيقانهن. كما كان من الصعب أن تدور الشكوك حول امرأة تغطي رأسها وتتبرع لمرضى السل والجذام. وقد كان هذا البيت بالنسبة إلى محارب متنفساً: «يتنزه بشكل آلي في أجساد مشوهة، ونزقة، ويخرج بلا أحلام». كما صور لنا تصرفات جدته «عاقبة» التي كان يلقبها أهل الحي بالعاصفة. وأخته السارة، مضطربة الشخصية والملقبة بالسحلية، التي حبست نفسها في غرفتها من أجل العثور على فعل مذهل، يؤهلها لدخول موسوعة «غينيس». وقد تعاطف معها محارب بشدة، على الرغم من اتهامها له بأنه يتعاطف مع الدنيا كلها إلا معها. أما أخوه المزيون، فقد كان يستعد ليصبح درويشاً، يُحيي ليالي الذكر في الموالد النبوية الشريفة، وتتلمذ على يد أحد شيوخ الصوفية المعروفين بعلاج المجانين. وتبين في ما بعد أنه الشيخ نفسه، الذي جاءت من أجله المرأة الغانيّة «سميتا باكار»، كي يخلصها من الجن الذي تلبّسها، وهو الأمر الذي سهّل من مهمة محارب في «إغاثة امرأة ضائعة»...إلا أنها بقيت ضائعة؟! يلحظ قارئ رواية «تعاطف»، المنحى الذي ارتآه أمير تاج في صوغ أحداثها، من خلال رؤية عميقة منسجمة مع مدلولها الاجتماعي الساخر، التي قد تكون جسدت تجربة ربما لها وقعها الخاص في نفس الكاتب، فأضاءت سلبية وانهزامية وحيرة شخوصها، بأسلوب بسيط ومباشر؛ إلا أن هذا الأسلوب افتقد عنصر التشويق الذي من شأنه أن يأسر القارئ ويجعله يتفاعل مع الأحداث والشخصيات، من خلال التعاطف معها أو رفضها. وبقي إيقاع الأحداث كما هو من بداية الرواية إلى آخرها، بسبب عزوف الكاتب عن استخدام اللغة الوصفية التصويرية، أو الحوارية، التي تؤدي إلى شحن ذهن القارئ، لاستقبال الجديد سواء أكان بالإيحاء أو الإيماء، مما أفقدها الحركة والقوة والحيوية. وأخيراً... أعود إلى المقطع الإسباني الذي أورده أمير تاج في مطلع الرواية، والذي حمل جمال العبارة وعمق المعنى والإحساس: «يسألون عن النور...أقول يشبه شمعة...يسألون عن الريح...أقول تشعلها الحناجر...تلك العشية كنت مغتبطاً...كسرت إشارة المرور لأول مرة...تماديت في كسر إشارات المرور...لأول مرة...دمي على كتفي...وحبيبتي تنتظر».