قد لا يكون الرئيس باراك أوباما قد حقق آمالاً للناخبين الذين أوصلوه إلى الرئاسة في الولاياتالمتحدة، وقد يكون في الوقت نفسه قد أثار سخط العديدين في الأوساط التي هي ابتداءً مناوئة له من جراء سياسات يعتبرونها تبديدية، إلا أن الأسلوب الذي سار عليه إلى اليوم، في سياق التجاذبات السياسية القائمة، من شأنه تحسين فرصه في الفوز بولاية ثانية. كانت بعض الأوساط التقدمية الممتعضة من أداء الرئيس أوباما قد استعرض، وإن أولياً، فكرة تحدي الرئيس في الانتخابات الحزبية التأهيلية، ليس انطلاقاً من قناعة لديتها باحتمال حرمانه من ترشيح الحزب الديموقراطي له للانتخابات الرئاسية المقبلة، بل للإعراب الصريح عن استيائها لتخلفه عن تنفيذ معظم بنود البرنامج التقدمي داخلياً وخارجياً، والاكتفاء حيث تم بالفعل بعض التنفيذ بالقدر الرمزي وإن تحت شعار تحقيق الممكن كخطوة أولى، كما في موضوع برنامج التأمين الصحي العام. إلا أن نقّاد الرئيس في الصف التقدمي يواجهون حقيقة راسخة هي غياب الوجه السياسي الملتزم خطهم والحائز على بعض البروز الإعلامي الذي يمكنه من تحدي الرئيس ولو شكلياً. فأقرب من يفي بهاتين الصفتين هو النائب التقدمي في الكونغرس دنيس كوتشنيتش، وهو الذي خاض معترك السعي إلى الترشّح الحزبي في تجارب ماضية بنتائج معدومة. وإذا كان الانتقاد لأوباما داخل الصف الديموقراطي لا يقتصر على التقدميين، بل ينتشر كذلك لدى المرتبطين بالمؤسسة الحزبية في العاصمة واشنطن والذين يشتكون من تلكؤ أوباما في صياغة القرارات، متيحاً المجال بالتالي أمام خصومهم الجمهوريين للإمساك بزمام المبادرة وتحقيق المكاسب على رغم الضعف المؤسساتي للحزب الجمهوري، فإن هؤلاء يدركون خطورة التسبب بمواجهة داخلية تدفع بالحزب الديموقراطي إلى التآكل، كما حدث بالفعل في صفوف الجمهوريين. وعلى أي حال، فالبديل عن أوباما والذي كان يتمناه هؤلاء هو وزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، التي تمكنت بمساندة سيدتين أخريين من طاقم الرئيس (أي مستشارته سامانتا باورز وسفيرته لدى الأممالمتحدة سوزان رايس) من دفعه الى اتخاذ قرار بالموضوع الليبي بعد طول تردد. غير أن توجهات كلينتون في الملفات التي تولتها تتعارض بوضوح مع الموقف التقدمي الداعي إلى إنهاء الحروب التي تورطت فيها الولاياتالمتحدة لتوّها، لا الشروع بحروب جديدة، فلا سبيل إذاً لجمع الامتعاضات المتضاربة. وعلى أي حال، فالكلام الذي تردد في أوساط مؤيدة لكلينتون عن رغبة لديها بالتخلي عن وزارة الخارجية والانتقال إلى موقع مستقل قد يسمح لها بالنظر في فرصها الرئاسية المقبلة مما لم يتحقق قبلا ًعلى أرض الواقع. وإذا كانت عوامل التناقض داخل الحزب الديموقراطي تلغي بعضها البعض، فتبقي للرئيس أوباما وضعاً محبذاً، فإن تلك القائمة في الوسط الجمهوري هي بدورها تمنح الرئيس قدراً عالياً من الاطمئنان. فعلى رغم النجاح الذي تحقق للجمهوريين في الانتخابات النصفية العام الماضي، والذي مكنهم من تجريد الديموقراطيين من النفوذ الكامل في السلطة التشريعية، فواقع الأمر أن حزبهم يبقى حزباً منقسماً على ذاته من دون توجه واضح ومن دون وجوه قيادية جامعة قادرة على نقل الحزب من موقع المعارضة القادرة على عرقلة السياسات واعتراضها إلى موقع الرؤية الواضحة لخط سياسي قادر على استقطاب الناخبين. فإذا كان الحزب الديموقراطي يعاني من بعض التناقض بين نشطاء تقدميين ساهموا إلى حد كبير في تعبئة الناخبين لمصلحة باراك أوباما، وبين مؤسسة حزبية متهمة بأنها أقرب إلى التجاوب مع مصالح المجموعات الخاصة منها مع المصلحة العامة، فإن الحزب الجمهوري بدوره يعاني من حالة انفصام علني بين المؤسسة الحزبية المتهمة بالتذبذب والترهل وبين تيار «حفلة الشاي» الذي جاء إلى الواجهة بوجوه وشخصيات من خارج المؤسسة الحزبية، بل من خارج العمل السياسي. وقد يكون جون ماكين، مرشح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية المقبلة، قد حسب أنه باختياره لسارا بايلن، والتي كانت قد فازت لتوّها بحاكمية ولاية ألاسكا من دون تجربة سياسية سابقة، قد يساهم بردم الهوة الناشئة حينها بين المؤسسة الحزبية والقاعدة، غير أنه بدلاً عن ذلك ساهم بتنشيط تيار «حفلة الشاي» الذي يزهو بشخصيات على نمط بايلن، شخصيات ذات زخم إعلامي مع غياب للتجربة والمضمون. بل إن بايلن نفسها، وسط هذا الجمع، تبدو وكأنها المخضرمة ذات التجربة والخبرة. فعلى رغم التشابه في موطن العلة بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري، أي التعارض بين المؤسسة والقاعدة، فإن النتيجة بالنسبة للحزب الجمهوري مختلفة تماماً عنها بالنسبة للديموقراطي. ففي حين أن التناقضات في الحزب الديموقراطي تلغي بعضها البعض وتسمح لأوباما بالاحتفاظ بالموقع القيادي، فإن التناقضات الجمهورية تعترض إمكانية بروز وجه قيادي ذي صدقية، حيث أن الشعبوية تحبذ السائرين في خط «حفلة الشاي»، في حين أن الحاجة إلى برنامج قادر على الفوز على مستوى البلاد ككل يتطلب التفاعل مع المؤسسة الحزبية والآراء الوسطية. وقد يكون الوجه الجمهوري الأبرز في محاولة الجمع بين التناقضات رئيس مجلس النواب السابق في الكونغرس، نيوت غينغريتش، وهو الذي سبق له أن حقق إنجازاً تعبوياً وانتخابياً عام 1994 بمواجهة رئيس ديموقراطي آخر ذي شعبية، أي بيل كلينتون. غير أن غينغريتش، سياسياً، شخصية مستهلكة ومتضررة من فضائح عدة من الصعب عليه أن يتجاوزها. فإلى أن يبرز وجه جمهوري جديد قادر على اعتماد أسلوب الجمع بين المؤسسة والقاعدة، فإن فرص الحزب الجمهوري لتحدي أوباما في الانتخابات الرئاسية المقبلة لن تكون جدية. يبقى أوباما نفسه. فالاعتراضات على سياساته وانتقادات تردده وافتقاده القدرة على صياغة القرار السريع توازنها موهبة خطابية لم تفارقه، بل يحتفظ الرئيس في خضم التجاذبات والتناحر بالقدرة على تقديم خطاب شعبوي في شكله، بغضّ النظر عن التفاوت في المضمون. ومهما كان أداؤه، فإن احتمالات احتفاظه بموقع الرئاسة، وفق معطيات اليوم، هي الأقرب إلى الترجيح.