يقدم فيلم دارين أرنوفسكي الجديد «أم» ثلاث لقطات سريعة مهمة كمفتاح للدخول إليه. الأولى ل «أم» (جنيفر لورانس) وهي تحترق، أو تولد، من نار عظيمة. في إشارة إلى ولادة الطبيعة الأم من نار كونية. وفي اللقطة الثانية ثمة «كريستالة» بين يدين عليهما أثر الرماد، تتصدر الكادر ومنها يتخلق البيت... الذي قد يكون رمزاً للأرض ذاتها، ولظهور الحياة البشرية نفسها. أما اللقطة الثالثة فهي للورانس نائمة في الفراش ثم تنهض مستغربة عدم وجود حبيبها خافيير بارديم في جوارها. وهي لقطة واقعية، كاشفة عن أحد مستويات تأويل الفيلم. هذه اللقطة نفسها تستعاد في الاختتام، حيث «الأم» محترقة تلفظ أنفاسها، والزوج يحملها بين ذراعيه، وسط ما يشبه العتمة والنجوم المتناثرة، ثم تطلب منه أن يدعها لأنه «لم يعد لديها شيء كي تعطيه» فيقول لها: «حبكِ»... ثم ينزع قلبها من أحشائها، ومن القلب نفسه تخرج «الكريستالة» فيضحك ويبتسم ربما للمرة الأولى والوحيدة ومن الكريستالة ينبثق البيت، والحياة، والوجود مرة أخرى. بينما الزوجة في فراشها تستيقظ كما في البداية. إنها دائرة أزلية تستعاد إلى ما لانهاية. وكأن «القلب» الذي تملكه الأم، هو نفسه «الكريستالة» التي يملكها «هو»، كلاهما رمز للحياة والطبيعة والتجدد والأمل. رمزية منطلقة إذن الفيلم، منذ لقطاته الاستهلالية، يفرض رمزيته على المشاهد، ورموزه التي لا يمكن تجاهلها إذا ما تم تأويله. فلو أخذ بالتأويل الواقعي، إزاء زوجة شابة، لم يمنحها زوجها الأكبر سناً منها، الطفل الذي تحلم به، ويعيش طوال الوقت في صومعته أو مكتبه، يطارد الأفكار العصية، لاستعادة مجده الأدبي، والتباهي بأنانيته. وعلى رغم كل تضحياتها في الحفاظ على فردوسهما المشترك، يبقى هو ذلك الشريك الشديد النرجسية، الشريك الذي يفتح باب البيت النائي، لشخصيات دخيلة تمجده، وأولها الطبيب المولع بإبداعه وأفكاره، فتدمر تلك الشخصيات البيت، وتعذب الزوجة، وتقتل طفلها في نهاية الأمر. فهل قصد الفيلم إلى إظهار الألم النفسي الذي تعيشه زوجة أي مبدع، حيث تتعذب لأنه يعيش في عوالم أخرى بعيداً عنها؟ لو صح ذلك، سيكون من المفترض أن تلوح تلك الشخصيات الخيالية لمن ابتكرها وليس لها، فهي صراعه الأساسي وليست صراعها. لكن ما شاهدناه أنه كان يتعامل مع هؤلاء «الدخلاء الغرباء» بألفة وتسامح، بينما هي التي ظلت تعاني من حضورهم. إذن يظل التأويل الواقعي للفيلم منقوصاً، ويذهب بنا إلى نفق مسدود، لا يمكن من خلاله تفسير معظم المشاهد، وأهمها رمزية ذلك الثقب في أرضية الغرفة، والذي يشبه الرحم، ولا يتوقف عن نزف الدم. وكأنه إشارة إلى تاريخنا الدموي، والمتجدد في الوقت نفسه. إشارة مزدوجة إلى اقتران الموت والحياة معاً. أما كابوسية الأجواء، وميلودرامية الأحداث، وكل تلك النقلات، والفجوات، فتعطي شريطاً مشفراً يسعى إلى تلخيص الوجود البشري كله بدءاً من نظرية الخلق، والطوطمية، وصراعات وأوهام البشر ومقدساتهم. ساعتها يمكن فهم عدد من القصص المضفرة في إطار العلاقة بين «الأم» وال «هو» وأولها قصة صراع الأخوين التي انتهت بقتل أحدهما للآخر. على مدار الشريط يجد المشاهد نفسه إزاء نماذج كثيرة تقتحم البيت الفردوسي ومنها: التائه، المتعصب، السكير، اللص، الزاني، الكاهن... أي كل المهن والأدوار الإنسانية، وكلها كانت تفسد البيت وتدمره وتنتهي بإحراقه، وإحراق «الأم» نفسها، التي لولاها لما وجدوا. ودائماً كانت الأم/الطبيعة، الأكثر حرصاً على معنى الحياة، وال «هو» الأشد ولعاً بالمخاطرة إرضاء لنرجسيته. هذه العلاقة الثنائية، الأزلية، التكاملية والصراعية في آن، كانت تستوجب «البداية» من جديد، أو بدايات لا نهائية، بدافع «حب» الأم و «غفران» ال «هو». وكأن الحب والتسامح هما الرهانان الوحيدان لتجاوز تلك الفوضى الهائلة، المدمرة والمتكررة. بالانتقال إلى رمزية «الطفل» نجده مانح معنى الأمومة والأبوة، وضامن الاستمرار والبقاء للبيت الفردوسي، لكن الدخلاء كما أفسدوا العلاقة الأزلية الصافية بين «الأم وال «هو»، اتخذوا هذا الطفل قرباناً مقدساً، وبعدما تباركوا به، أكلوه. في إشارة إلى علاقة البشر المعقدة بالمقدس، ما بين أكله وحرقه وتعذيبه، وتقديسه في الوقت ذاته. هنا لا يمكن تجاهل رمزية «الطفل» في الميثولوجيا الإلهية، والشيطانية، على حد سواء. ومن تلك الزاوية يُذكر الشريط بفيلم بولانسكي الشهير «طفل روز ماري». وما يجعل التأويل الميثولوجي للفيلم أكثر فاعلية، أنه ولع قديم في نتاج أرنوفسكي وآخرها فيلمه «نوح» على سبيل المثال، وكأنه يحاول قراءة المصير الإنساني الآني، عبر التنقيب في آركيولوجيا القصص والأساطير التي شكلته. كما لا يخفي تأثير تلك الميثولوجيا البصري الفتان في رواد السينما، وهو ما تستثمره على الجانب الآخر سينما «الكوميكس» أيضاً، وأحدثها فيلم «ثور». توتير الأعصاب إلى هذا استعان أرنوفسكي بمؤثرات صوتية موترة للأعصاب، لتجسيد الضوضاء الأبدية للمنزل، شارك في توليفها كريغ هنيغان وآخرون. واختار لملحمته طاقم تمثيل يتصدره بطلان حائزان على الأوسكار، هما خافيير بارديم الذي لمس وجسّد غرائبية دوره، في سلاسة، أكثر من جنيفر لورانس التي اتسمت بشيء من المبالغة والنمطية في تجسيد فكرة الزوجة المصدومة تجاه ما يجري أمامها دائماً. وكان لميشيل فايفر حضورها الآسر في دور الزوجة الدخيلة، والغامضة. لكن تظل أزمة الفيلم في ذلك الخلط ما بين مستواه الواقعي، والرمزي، والذي رهن التفاعل معه بتفسير محدد لرموزه. وكذلك في هذا الانفصال ما بين ذهنية تلك الرموز، وطبيعة الدراما المعروضة، وكأن الدراما مجرد حيلة هشة، يتوسل بها كاتب ومخرج الفيلم كي يقول شيئاً عن تلك الرموز. على رغم أن قوة السينما تكمن، كأي حال سردي عظيم، في دراميتها المحكمة قبل أن تكون في ذهنية الرموز المطروحة. هنا، الفكرة الذهنية كانت أقوى من أي شيء آخر، ولا يمكن التعاطف مع الفيلم إلا عبر الاقتناع بها أولاً.