شدد وزير العدل الدكتور محمد العيسى على أن أحكام الشريعة الإسلامية أصلية لا تبعية فيها ولا بدلية لها، وقادرة على مواجهة متغيرات المكان والزمان، مشيراً إلى أن نصوص الشريعة ومقاصدها بينت حدود الشرع ونظمت أحوال البلاد والعباد، ورتبت المصالح الشرعية التي في ضوئها يجري توصيف الحكم البديل. وقال الوزير العيسى في حوار مع «الحياة»: «استخدام مصطلح «العقوبات البديلة» لا يعني أننا وافقنا على أن الشريعة لها أصل وبديل، وإنما هي عقوبة شرعية في قوة ودرجة ما يسمى بالعقوبة المستبدلة». وأضاف أنه يجب التأكيد على التوجس من أطروحة العقوبات البديلة على أنها مجلوبة بفعل إلحاح الضغط العولمي فهذا التوجس لا صحة له، وينسحب على الأطروحات الحديثة، وعندما ننساق مع تحفظ هذه النظرية. وحول رؤيته لمن يطالب بتطبيق العقوبات البديلة بدلاً من عقوبة السجن، أوضح أنه يجب إعادة النظر في هذه العقوبة وفق معايير شرعية لا بد من مراعاتها، و«نحن على علم بأن السجن في القضايا اليسيرة يعود سلباً على السجين، ما يعني أن التوقيف مهما بذل فيه من العناية والرعاية والاهتمام فإن السجين يحمل بين جنباته «ردة فعل سالبة» على مجتمعه، إضافة إلى اختلاطه بأمثاله». وفي ما يأتي نص الحوار: تضمنت بعض المداخلات في ملتقى العقوبات البديلة الذي اختتم أعماله الأسبوع الماضي أن الشريعة الإسلامية لا تعرف هذه البدائل، والمفهوم الحديث، قد يكون نتيجة لعولمة الفكر الجنائي الدولي.. كيف تنظر لمثل هذا الطرح؟ - الحقيقة أن الفقه الإسلامي منذ زمن يواجه بعض الإيرادات على تأصيل عدد من أحكامه، ومرجعها إلى قصور السبر والتقسيم، أو قصور التصور، أو الفكر المتلبس سلفاً بأحد أمرين، وهما: إما بالتحفظ غير المعلل على أي إضافة للمادة الفقهية، التي لا بد أن تتصدى للنوازل وتُكَيِّفَها على هدي الشريعة الإسلامية ومقاصدها كما تصدى لذلك أسلافنا، فثراء مدوناتهم الفقهية جاء نتيجة لهذا الإقدام الشرعي، ومتى لم يسلم المتصدي من هذه الأعراض والأمراض فإنه سيَضل ويُضل وسيُفتَن ويَفتِن، ولذا حذر أهل العلم من المفتي الماجن الذي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَلَ الْبَاطِلَةَ المفضية إلَى الضَّرَرِ، وَمن يفتي عَنْ جَهْلٍ خصوصاً من يرجح قبل النظر في الأدلة فيبحث عن الدليل لإسناد الترجيح المتقدم بفعل الميل مع الهوى، لا عن الدليل ثم الترجيح. والسبب الغالب في استيلاء هذا التحفظ على أذهان البعض لا يعدو التركيبة النفسية والفلسفة السلوكية، التي تميل إلى تغليب منهج التوجس بفعل ما اكتسبته من فلسفة الممانعة لأيّ ثراء علمي يُضاف أولاً لمادتنا الفقهية الخصبة، ويزيد ثانياً من براهين قدرة الشريعة على مواجهة متغيرات الزمان والمكان والأحوال والعوائد، التي تعزز من أدوات المواجهة مع المُغْرضين والمشككين. ومنهم من يكشف عما في قلبه من الشبهة والشهوة فيعمد إلى تزوير الحقائق، وأدعو إلى فقه جديد ينسب إلى «فقه الواقع» منفصلاً جملة وتفصيلاً عن أسس وضوابط فقهنا الشرعي، ثم يتوسع في مفهوم ذلك الفقه إلى فقه آخر يكثر فيه السجال واللغط والغلط، وحجته في هذا عدم إقحام الشريعة في أمور معاصرة تعود في مجملها إلى أصل الحل، ومدار أطروحته عند النظر على تحريف معنى: «أنتم أعلم بأمور دنياكم». والقسم الثاني من تلبس الفكر المشار إليه وهو النَّفس المسكُونة مسبقاً بالخوف المجرد على الفقه الإسلامي، ولابُدَّ أن نقيّد هذا الخوف السلبي بوصف «المجرد»، لتجرده من الخاصية الإيجابية، مع التسليم بأن التخوف لا يخلو في بعض الحالات من إيجابيات، إذ منه ما هو صحيح يتعين الأخذ به، ومنه ما هو غير صحيح، وتعتبر نزعته المجردة مسيئة إساءة بالغة لعالمية شريعتنا، وإضعافاً لثراء مادتها، وقطعاً للطريق أمام تجدد سَيْرها. لكن ما موقف الفقه الإسلامي من مصطلح «العقوبات البديلة»، التي ينادى بها في الوقت الحالي؟ - فقهنا الإسلامي وإن كان لا يعرف مصطلح «العقوبات البديلة» لكنه يتعامل إيجاباً مع هذا المطلب الحَسَن، فهو لا يستخدم هذا المصطلح لكنه في تطبيق مدلوله الصحيح أرْحب من غيره وفق معايير فقهنا المقاصدي متى ما توافرت ضوابط الأخذ بهذه الفكرة، والعقوبات البديلة يجب أن تقيّد بعدم مخالفة النص الشرعي، مع أهمية استيعاب مقاصده وفي طليعتها الأخذ بمقصد الزجر والردع في العقوبة، مع تحقيق ضمانات أخرى تتعلق بحق المجني عليه والمجتمع، وبهذه المعايير نصل إلى أن الفقه الإسلامي من وجهة نظرنا يقبل المفاهيم المطروحة بشأن هذه العقوبات. أما مسألة استخدام المصطلح الحادث وهو العقوبات البديلة، فكثير من المصطلحات الفقهية المعاصرة حادثة بل إن المجامع الفقهية والدراسات الفقهية الحديثة تدور في غالبها على وقائع ونوازل جديدة في مصطلحاتها، ومن الشطط أن أتوجس من كلِّ مُصطلح أو فكرة جديدة تسير في إطارها الإيجابي ولا أتصدى لها، ولاسيما عند عدم التلبيس بها بين الحق والباطل، والجائز والمحرم، فنحن نستوحش من المصطلحات الجديدة إذا شاع اعطاؤها حكماً واحداً في حين يلزمها التبيان والتفصيل، والعلم سبر وتقسيم، وجمع وفرق، وعندما تكون هذه السلبية في المصطلحات الحديثة ننعى عليها، ونردها لجادة الصواب فنقر بصحة لفظها واستعمالها في الشرع إن كانت كذلك ولا نقر بارتقائها درجة المصطلح ما دامت مبتسرة الفهم مسيئة لحكم الشرع أو نافخة في مسألة شرعية على غير هُدَى إما بتسرع، أو خلطٍ بحكم إجمالي (بين ما يجوز وما لا يجوز)، أو لعاطفة، أو جهل، والفقه الإسلامي حَذِرٌ من تسلل المصطلحات الوافدة خصوصاً متى ما قامت الدواعي والمقتضيات على تشكيل المصطلح قديماً وتم النفخ فيه حديثاً، ويزيد الزمان علة تكوين حكم إجمالي لبعض المصطلحات المحدثة بما يسيء لحكم الشرع بداعي الحرص والتحوط، وما أحسن التحقق والتفصيل والبيان. هل تنظرون إلى أن هناك توجساً بالفعل لدى البعض من استخدام هذا المصطلح؟ - الحقيقة أن في التوجس من المصطلح متى كان معناه صحيحاً وفي سياق ضوابطه الشرعية سلبيتين، الأولى على المتوجس نفسه نعياً على مساحة أفقه وفهمه، حيث شمل المعنى الصحيح للمصطلح الحادث بتوجسه في المعنى المتحفظ عليه في عبارة المصطلح. أما السلبية الثانية، فتنصب على قدرة الفقه الإسلامي على التصدي للنوازل بمصطلحاتها ونظرياتها، وما أسهل أن أقول بأن هذا محدث وهذه القضية مجلوبة وهذه الفكرة مصنفة ضمن الضغط العولمي لا صحة له، وأنه لابد لي أن أكون بعيداً عن هذا كله وأن يسعني في الفقه ما وسع غيري مع أن هذا غير لم يسعه وهو يقوم بما يجب عليه من النظر لنوازل عصره ما وسع من قبله، إذ سعة غيرنا كانت في إطار المطروح من النوازل وفق زمانهم ومكانهم وأحوالهم وعوائدهم، بل منهم من زاد جوداً في العلم فناقشوا مسائل متوقعة يستشرفون بها مستقبل النوازل، وعلى هذا الهَدْي عقد أهل العلم هذا الأمر في قاعدة تغير الفتاوى والأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد، وهذا التغير لا بد أن يكون بضوابط الشرع لا بالتشهي ومجرد التبعية والانسياق وراء النظريات والتحولات الحديثة، وعليه فيجب التقيد بضوابط هذه القاعدة وإلا وظفت توظيفاً سيئاً بما مؤاده الانسلاخ من أحكام الشرع بتحريف الكلم عن مواضعه. وفي جميع الأحوال، فنحن عندما نستخدم مصطلح «العقوبات البديلة» لا نوافق مطلقاً على أن في الشريعة أصلاً وبديلاً وفق سياق هذه الفكرة، فالحكم البديل في نظرنا الفقهي هو عقوبة شرعية في قوة ودرجة وتراتيب ما يسمى بالعقوبة المستبدلة. ويجب أن نعلم بأن أحكام الشرع (أصلية) لا تبعية فيها ولا بَدَلِيَّة وهي النصوص، التي بينت حدود الشرع ونظمت أحوال البلاد والعباد ورتبت المصالح، ونقصد بالتبعية هنا المجاراة والمحاكاة، والبدلية إحلال حكم محل آخر بالخيار المجرد على هيئة الأصيل والرديف عند عدم مناسبة الأصيل، ولا نقصد بالتبعية التراتبية فهذه ترد في بعض الأحكام كما في حرمان القاتل من الميراث، ولا بالبدلية الانتقاليّة كما في الانتقال للدية عند العفو عن القصاص، وفي إزاء تلك الأحكام (الأصلية) أحكام (تأييدية) لحماية نص الحكم الأصلي (وهي الجزاءات والعقوبات). هناك حتى الآن من لا يعرف معنى مصطلح «العقوبات البديلة» معرفةً حقيقية؟ - مصطلح العقوبات البديلة يأتي في سياق استعارة اللفظ الحقوقي الدارج، بهدف تقريب المقصد من تنظيم الملتقى الذي عقد، وإلا فإن العقوبات الشرعية وإن دخلت في نطاق التعزير فهي في جميع أحوالها عقوبات أصلية، وحاصل ما سبق أنه ليس في تشريعنا الجنائي بدائل لأصوله فكلُّ ما يحقق المصلحة الشرعية يعد أصلاً في العقوبة، ويسوغ التجوز في استخدام المصطلح إذا كان لغرض صحيح لا لمجرد المحاكاة والتبعية والإعجاب. من المعلوم أن للظروف والأحوال اعتبارات في الشرع المطهر فمتى تحقق مقصد المشرع الحكيم كان العَدْلُ، جرياً على ما استقرت عليه القاعدة الشرعية التي قررها ابن القيم بقوله: «متى ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي وجه كان فَثَمَّ شرع الله»، ولا يعني هذا أن نتوسع في الخروج عن النص، فهذا الأمر مقيد بالمساحة المسموح بها للقاضي وفق سلطته التقديرية في الوقائع التعزيرية. لكن ما شروط استخدام مبدأ العقوبات البديلة في المنظور الشرعي؟ - يجب علينا التحقق عند أخذنا بمفهوم هذه العقوبات من شروط مهمة تتعلق باحترام النص الشرعي، وعدم الخروج عنه، أو مخالفة مقصده بأي وجه كان وتحت أي ذريعة، مع ضمان حق المجني عليه، وحق المجتمع، والأخذ في الاعتبار حكمة التشريع من التأديب، لاسيما ما يتعلق بمقصد الزَّجْر والرَّدْع، مَعَ إِعْمال فقه الموازنات وفق قاعدة المصالح والمفاسد، ومن ذلك عدم دخول أرباب الجرائم الكبيرة والخطرة في الخيار البديل. من حيث التأصيل والتكييف فإن العقوبات الشرعية، خصوصاً ما يدخل منها في توصيف العقوبات البديلة مؤيدة بالدليل الشرعي تجريماً وعقوبة، وهذا يُرَدُّ به على المعترض فيما يورده من عدم توافر النص الشرعي أو النظامي المُجَرِّم والمُعَاقِب في عدد من القضايا التعزيرية سواء كانت أصلية أو بديلة، عملاً بقاعدة «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص». ومنطقة التعزير في التشريع الإسلامي تمثل مساحة واسعة لا حجر فيها على القاضي ما لم يكن نصٌّ نظامي أو مبدأ قضائي يُلزمه بالسير على جادته، ما يشهد بسعة الشريعة ويسرها ومرونتها في جميع موادها لاسيما المادة الجنائية، مع وجوب أخذ الحيطة والحذر من التساهل في توظيف هذه المرونة بتحميل النصوص ما لا تحتمل والخروج عن دلالاتها ومقاصدها ميلاً مع الهوى أو مداهنة لأطروحة لا تقرها الشريعة، ويجب أن نعلم بأن التوجس من أطروحة العقوبات البديلة على أنها مجلوبة بفعل إلحاح الضغط العولمي ينسحب على كل الأطروحات الحديثة، وعندما ننساق مع تحفظ هذه النظرية فإنه يلزمنا الحد من دراسة المستجدات ونريح المجامع الفقهية من عنائها، ونوقف البحث في كثير من القضايا المعاصرة، ولا يفوت أن كثيراً من قرارات تلك المجامع والعديد من الفتاوى ذات الثقة والاعتبار تتطرق لنوازل معاصرة وتسوق مصطلحاتها الحديثة وفق الرؤية المشمولة بما أوضحه العلامة ابن القيم في كلامه المشار إليها. لو كان ثمة ضغط بفعل العولمة العلمية في هذه المادة الجنائية فإن الحكمة ضالة المؤمن إن وجدها فهو أحق بها فننظر في الموضوع في ضوء مقتضيات المصلحة الشرعية بغض النظر عن أي ظرف مصاحب على فرض تقديره، وذلك أننا عندما نقرر المسألة وننتهي فيها إلى رأي لا نستصحب الإلحاح والبعد عن حرجه بل حاجتنا الشرعية إليه، ومتى لم تكن الحاجة تكون المخالفة بالترك، وعندما يُقدِّم غيره خياراً فيه المصلحة والنفع، فإن الحكيم لا يضرب عنه صفحاً بحجة وروده عن الغير، ويحصل في هذا الباب كثير من الخلط والجهل والفوات. هناك من يؤيد تطبيق فكرة العقوبات البديلة لتجنيب من يحكم عليه أخطار ما قد يحصل عليها في السجن، ما رؤيتك لهذا الأمر؟ - موضوعنا المتعلق بالعقوبات البديلة ينصب في غالبه الأعم على بدائل السجون، وقد اطلعنا على إحصاءات في هذا الأمر توجب علينا إعادة النظر في هذه العقوبة وفق معايير شرعية لا بد من مراعاتها، وكلنا على علم بأن السجن في القضايا اليسيرة يعود سلباً على السجين، إذ إن السجن مهما بذل فيه من العناية والرعاية والاهتمام فإن السجين يحمل بين جنباته «ردة فعل سالبة» على مجتمعه، علاوة على اختلاطه بأمثاله إن لم يختلط بمن هو أسوأ وفي كلا الحالين خطر وضرر، كما أن السجن يكلف الدولة مبالغ باهظة، فضلاً عن حرمان أسرة السجين من عائلهم، وفي المقابل يكون السجن أجدى وأنفع في القضايا الخطرة، ونحن بهذا ننبه على خطأ المبالغة في الحكم على السجن بالسلبية المطلقة في جميع القضايا والظروف والأحوال والأشخاص.