«في انتظار أبو زيد» عمل وثائقي حققه الكاتب السوري محمد علي الأتاسي شارك به أخيراً في عدد من المهرجانات واللقاءات. والفيلم يرصد محاضرة للمفكر التنويري الراحل نصر حامد أبو زيد دارت وقائعها في وقت سابق، ويمكن منذ البداية القول إنها تتضمن تلخيصاً «مربكاً» لفكر أبو زيد نفسه، سببه افتقاد المخرج الأتاسي لمعادل بصري يوازي به سيلاً من الأفكار الناضجة والملتصقة بواقع إشكالي أحاط بالمفكر أبو زيد، ما يدفع إلى القول إننا نقف أمام كتاب ناجز مصور يمكن تقليب صفحاته أيضاً، أو اللجوء إليه بوصفه فيديو منزلياً يمكن من خلاله متابعة هذه المحاضرة المتميزة التي لم يكن ممكناً «احتضانها» على ما يبدو إلا في أروقة الجامعة الأميركية في بيروت. لم يكن أبو زيد يدعى من قبل الجامعات العربية إلا لماماً، كما يقول في إحدى لحظات الفيلم غير متحسر في مواجهة كاميرا الأتاسي. أما الفيلم فيبدو على درجة عالية من «التبسيط» لدورانه من حول نقطة واحدة لم تعزز من قوة الوثيقة التي شكلتها محاضرة أبو زيد، إذ بدا واضحاً أن المخرج يتنازل عن كرسيه في الإخراج لحساب كرسي موقت بجانب المحاضر يزول مع توقف الكاميرا عن الدوران. وكان ممكناً مجاراته مجازياً من دون الاحتكام إلى توثيق مفقود. فأبو زيد حضر تماماً في الموعد المحدد، لا بل أن حضوره كان كثيفاً وواضحاً، وأصبح فعل الانتظار من بعده من دون جدوى، فقد قال الرجل كل ما يلزم في محاضرته الشهيرة، وقام بواجبه على أكمل وجه، وبقي لزاماً على الأتاسي أن يقوم بواجبه كمخرج «ذي حظوة» من قبل الموضوع الذي يقدم عليه، فلا نحسب أنه بالإمكان تصوير مادة عن موضوع معين يعكس تبرماً أو ضيقاً، بعكس ما كان يبدو على المخرج الذي كان يتفنن باختراع مصادمات لأبو زيد مع محيطه لم تكن مهمة، كما فعل في حواره مع مذيع ال BBC حسن معوض حين توجه إليه بالسؤال ما إذا كان قد قرأ المفكر قبل أن يقرر استضافته، فيما ردّ معوض أن طبيعة البرنامج تجيء من طبيعة إعلام اليوم، وهو إعلام لا يدخل في العمق بحكم محدودية تخصصه، وهذا شأن شائع لا يمكن التحكم به ولا حتى إلقاء اللوم على المذيع بسببه. وإن ردّ هذا الأخير بأنه قرأ بشكل مستفيض عنه بما يفي الغرض الذي يعد البرنامج الإذاعي من أجله. وكانت المفاجأة أن يطلب الأتاسي الأسئلة التي من المفترض أن توجه لأبي زيد، إلى درجة أن بعض المشاركين في البرنامج استنكروا مثل هذا الطلب، وهو ما لم يفعله أبو زيد نفسه إذ لا يبدو أن مفكراً حراً وطلقاً مثله بحاجة لأسئلة معدة بشكل مسبق، فيما بدا الأتاسي وكأنه يقدم للتو من على مقاعد «الأحزاب» المدرسية التي تلزم العضو بالخضوع وأن يكون صاغراً تماماً لما سيملى عليه من معلومات وأسئلة، وهي ذات المقاعد الغامضة التي كان يقرأ عليها نوع من الكراسات أصبحت الآن في ذمة التاريخ، لا ذمة السينما المفترضة. ربما أضاع الأتاسي فرصة ذهبية لا تعوض حين فتح موضوع «تطليق» أبو زيد من زوجته الدكتورة ابتهال يونس. نقول ربما، لأن هذا الموضوع كان يصلح لتقديم فيلم مهم عن المفكر التنويري، لا الذهاب في اتجاه واحد تفرضه المحاضرة، لما لهذا النوع من تكريس مسرحي للحالة الملتبسة التي تنشأ هنا عن العلاقات المتصادمة بين صاحب المحاضرة، والجمهور الذي ينتظر سماع ما يريد أن يقوله له المحاضر - لا أن يبدي المخرج «تورطاً غريباً» في مادته بمحاولاته «تصغير» شأن المحاضر عن غير قصد ربما – كما جرى حين لقاء أبو زيد مع جيزيل خوري لحساب محطة «العربية»، وفيها أوحى الأتاسي للمفكر بضرورة «تهشيم» هذا النوع من المحطات، فيما بدا أبو زيد نفسه أكثر تفهماً وانفتاحاً وديمقراطية واستيعاباً للآخر حتى لو اختلف معه اختلافاً جذرياً. وثيقة متلكئة «في انتظار أبو زيد» محاضرة لمفكر تنويري مقدام، لم يكن ممكناً توقع حضور صاحبها من خلال باب خلفي دوار، ومعروف أن الوثيقة تستنفد حين يتم استخدامها ولو مرة واحدة، وإذا ما تحولت إلى رمز بصري في الفيلم لاعتبارات درامية استثنائية يمكن اللجوء إليها وقت الشدة. وهذا ما لم يكن ممكناً حدوثه في حالة انتظار الأتاسي أن يقدم على حلول بصرية تنجيه من تلكؤ الوثيقة في اكتمال قوسها الدرامي حتى يصبح لها قوة الفيلم الوثائقي. أما القول كما فعل الأتاسي حين قدم فيلمه في صالة المعهد الفرنسي في مدينة تطوان بأنه ليس مخرجاً، وأنه لا يتوخى الفعل الإخراجي في علاقته المستفيضة بأبي زيد، فهذا لا يقلل من التباس العلاقة وتأزمها بين المخرج والجمهور الذي يغمض هنا عينيه للمرة الأخيرة، وهو يقرر مشاهدة محاضرة طويلة، غنية بالأفكار والقدرة على استيعاب الآخر، والأهم قدرة المحاضر على أن يكون ديموقراطياً مع «أعدائه»، وهذا قد يبدو صعباً حين يقرر المخرج السطو على كرسي المفكر، لا كرسي الإخراج الذي بقي فارغاً بانتظار محمد علي الأتاسي.