على امتداد عقود من تاريخ الشمولية التي حكمت دول الكتلة الشرقية، عرفت الدول تلك ما يسمى في علاقة مجتمعاتها بالرقابة والجهاز البوليسي العام ب «أفلام الرف»، والتسمية هذه كناية بليغة عن تلك الأفلام التي كان يجرى منعها وحجبها عن العرض في صالات العرض بعد تصويرها لتستريح على الرفوف وفي ظلمات المستودعات المعتمة، كونها لا تناسب أمزجة حاملي لواء الثورة التي يفترض ان تقيم إرهاصاتها في الكولخوزات والسوفخوزات، دونما حاجة إلى «ترفٍ» قد يلهيها عن «رسالتها» الكونية، فكيف إذا كان الترف ذاك يختزن نقداً وتبرماً من أدبيات النظام السياسي والاجتماعي المقيم داخل أسوار بلدان الستار الحديدي! مدعاة هذا الكلام والتقديم لهذا النص بالفكرة الآنفة الذكر، كان الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام قبل مدة، ومفاده ان الرقابة الدينية في لبنان كانت ألقت القبض على فيلم «في انتظار أبو زيد» الذي أخرجه الكاتب والصحافي السوري محمد علي الأتاسي، أثناء محاولة الفيلم الدخول إلى ساحة مهرجان أيام بيروت السينمائية، قبل ان تدلي بدلوها النهائي وتهمس للأمن العام اللبناني بالإفراج عن الفيلم الذي حاز جوائز تقدير في مهرجان مرسيليا في فرنسا، الأمر الذي لا يعني الرقيب من هذا التكريم شيئاً، وإن اقترن الأمر ببلد الأنوار والتنوير وبلدان أوروبية غيره احتضنت نصر حامد أبو زيد في أرقى جامعاتها (ومؤسساتها المدنية) يومَ أهدرت دمه «القبائل». هكذا، كان من الممكن ان يصنف الفيلم ضمن أفلام الرف هو الآخر، من بين يافطة طويلة تضم أيضاً كتب الرف وصحف الرف وحتى المثقفين الحقيقيين الملتزمين ثقافة تهمشهم هي الأخرى وتحيلهم «مثقفي رف»، هذا إذا لم تنسجم الرقابات مع نفسها حتى النهاية وتزج بهم وراء القضبان، أو تسحق أجسادهم بعبوة أو بكاتم صوت على ما جرى مع كُثر حاولوا تعكير يقين المزاج الشعبي وخلق قلاقل وهزات وسط الركود والسُّبات. ما الذي يجمع بين سمير قصير ونصر حامد أبو زيد؟ نواحٍ كثيرة هي التي قد تضيق بسببها الرقعة الفاصلة بين اثنين فقدتهما الثقافة النقدية العربية، ربما كانت تسمية نصر حامد أبو زيد ب «الشهيد الحي» إحداها، كناية عن علاقة ما بسمير الذي كان على موعد دائم مع الشهادة والموت، ومردّ تلك العلاقة أن الرقابة الدينية والسياسية التي لاحقت أبو زيد حتى إندونيسيا، تنجدل مع الاغتيال والتصفية الجسدية التي طاولت سميراً ذات صباح مشؤوم، وإن اختلفت الدرجة والسقف الذي تصل اليه وضاعة الرقيب، من مصادرة كُتب أبو زيد وتفريقه عن زوجته ومنعه من التدريس في الجامعات المصرية، حتى تلك اللحظة التراجيدية التي تشظى معها جسد سمير قصير كسقف أعلى للرقابة، آنَ يستوي القتل بسبب الرأي («رقابة في حدها الأقصى» وفق تعبير لزياد ماجد). لكن ربما كان ما يجمع الاثنين شيئاً آخر، شيئاً رمزياً، أعاد العزيز محمد علي الأتاسي تذكيرنا به في مواضع كثيرة، ومنها فيلمه ذو العنوان الملغوم «في انتظار أبو زيد»، وكأن من مات ورحل حاملاً كتبه وأفكاره يمكن أن يعود على ما يدل فعل الانتظار له، أو انه لم يمت إلا جسدياً فيما يقيم بفكره ما أقام مثقف نقدي في هذا العالم العربي الذي أغلق باب النقد فيه منذ قرون طوال، وهو القول والعزاء الذي دأبنا عليه دوماً كلما أعمل الرقيب مبضعه في موضع ما. واستطراداً، من الطبيعي ان آلة القمع والإقصاء لن تقدر على مصادرة كل شيء وإن صادرت بعضه. آية ذلك القول أن كُتب وأفكار مفكرين ومثقفين وكتّاب وصحافيين لقوا حتفهم رمزياً او جسدياً، لا تزال تجوب المدن وصفحات الشبكة العنكبوتية والفضائيات وهو ما لن يسيطر عليه سدنة الحقيقة المطلقة إلا لماماً. فكيف إذا ما كنا على موعد دائم مع سمير مثلاً في مسابقة سنوية تحمل اسمه، وتقدم كل عام فائزاً يقترن اسمه باسم سمير في التطويح بالنظام الشيفري في الهواء وقول المسكوت عنه دونما مواربة؟ آنئذٍ يكون من نافل القول ان سميراً (وآخرين) لم يموتوا. وعطفاً، ينطبق هذا على أبو زيد الذي كرمته جامعات أوروبا في حياته وبعد مماته، من دون أن تعيد مصر المحروسة اليه الاعتبار، وهو من ساهم فكرياً مساهمات بالغة الأهمية في التنظير للإصلاح الديني والسياسي حيث لا تنوير إلا على أساسهما. * كاتب سوري.