الزمان: يوم سبت مشمس من «ربيع العرب». المكان: المدخل الشمالي لوسط بيروت المعروف ب «سوليدير». الوقائع: عنصر من الجيش اللبناني مدعوم من رجال أمن بلباس مدني يمنع شاباً وصبية من دخول المنطقة بحجة أن «شكل الشاب لم يعجبه». ارتبك الصديقان وخجلت الفتاة من الموقف فيما الشاب حاول تجاهل أوامر العسكري والمضي قدماً مع صديقته. استدعاه رجل الأمن المدني ونهره: «يالله من هون... سمعت شو قلك الوطن؟ ما بدي شوفك هون». حاولت الفتاة أن تتدخل لكن أنوثتها لم تسعفها بل أعطت مفعولاً مضاداً. ف «الوطن» لم يوجه كلامه إليها وتجاهلها تجاهلاً تاماً وتحدث إلى الشاب من جديد «خذها واذهب من هنا». و»الوطن» تعبير يستعمل في لبنان للدلالة على الجنود ورجال الأمن وما كان يقال عنه «ابن دولة» أي الموظف في السلك العسكري. لكن الشاب الذي لم يبد عليه أنه تجاوز مطلع العشرينات استفزه أن يكون مظهره لا يتواءم ومواصفات «الوطن». فقال: «أريد أن افهم الآن لماذا أنا ممنوع من الدخول؟ هل شكلي ضد القانون أم أن هناك لباساً موحداً لدخول هذه المنطقة؟». لم يأته أي جواب بل مجرد حركة من اليد تأمره بأن «إرحل» فيما رجل الأمن المدني انشغل في التنسيق مع زميل له عبر الجهاز اللاسلكي. لم يستطع الشاب كتم غضبه وتفادي إحراجه أمام صديقة ربما يخرج معها للمرة الأولى فانتقل إلى الرصيف المقابل يشتم البلد و»سوليدير» وكل من يشرب القهوة فيها. وللأمانة، فإن شكل الشاب لا يشبه من يرتادون «الداون تاون» من موظفي الشركات والمصارف المتأنقين ببدلات كحلية أو سود ولا السياح الخليجيين أو الأوروبيين الذين يسهل تمييزهم بكاميراتهم وقبعاتهم. كان مجرد شاب يرتدي جينزاً واسعاً وقميصاً أبيض زين ياقته بكوفية ملونة، تاركاً شعرات وجهه تنمو كيفما اتفق وبغير نسق محدد. إنه ذاك اللوك اليساري المخزن في الذاكرة من صور عقود مضت. أراده صاحبه فوضوياً عفوياً فبدا مفتعلاً لشدة اهتمامه بالتفاصيل وحرصه على إبرازها. لكن الجندي لا تعنيه تلك الفروقات ولعله لم ينتبه إليها أصلاً. كل ما يعرفه إن هذا الشكل لا يعجبه ويكفي. ولكن للأمانة أيضاً، تصادفت رغبة الشاب في احتساء القهوة مع صديقته مع انتهاء تجمع للعلمانيين في ساحة الشهداء القريبة من شارع المعرض أو شارع المقاهي، يطالبون فيه بإسقاط النظام الطائفي في لبنان. هو تجمع من أصغر التحركات التي قادتها هذه المجموعة والتي بلغت ذروتها قبل شهر تقريباً لتعود وتتصدع على نفسها لمشاركة أحزاب وحركات طائفية فيها. لكن رمزية التجمع في وسط بيروت والإصرار على تكرار التجربة أسبوعياً مهما كان عدد المنضمين إليها والمشاركين فيها، اتخذا أبعاداً أخرى. فسرت إشاعات قد تكون صحيحة بأن «العلمانيين» يخططون للنزول أفراداً إلى ساحة النجمة، في قلب «سوليدير»، والتجمع هناك ثم المكوث أمام مقر مجلس النواب إلى أن يستجيب من فيه لمطلبهم بإسقاط النظام الطائفي. وقد يتهيأ لمن يسمع هذا الكلام أن «العلمانيين» تحولوا فجأة إلى قوة ضاربة أو حزب منظم قادر على إغلاق البلد وتهديد أمن المرافق الرسمية فيه. والواقع إنهم مجموعات وأفراد من توجهات سياسية مختلفة لعلهم يختلفون في ما بينهم أكثر مما يتفقون، لكنهم وجدوا في رفضهم للطائفية أرضية مشتركة ينطلقون منها. لكن المخاوف الأمنية التي لم تتوقف عند تلك التفاصيل، بلغت حداً استدعى اتخاذ إجراءات أمنية مكثفة أضيفت إلى الإجراءات المطبقة أصلاً وسبق أن حولت وسط مدينة يفترض أن يكون مركزاً حيوياً إلى منطقة شبه معزولة. تلك الحادثة الهامشية التي ربما يتندر عليها الشاب والصبية اليوم، تقول الكثير عما آلت إليه الأحوال في لبنان. إنه وطن ضاق بمواطن لا ينتمي للمجموعة الأوسع، تماماً كما طرد ذلك «الوطن» شاباً يغرد خارج السرب المتعارف عليه. كيف عرفه؟ من شكله قال. فلنسلم جدلاً بأن الشاب والفتاة هما فعلاً جزء من «مؤامرة كبرى» تهدف إلى توجه أفراد من «العلمانيين» إلى الساحة ليشكلوا تظاهرة ترفع الصوت بمطالبها. ما حدود الخطر الأمني الذي يشكلونه؟ وهل يمكن اعتبار الشكل دليلاً نافذاً ضد صاحبه؟ وأكثر من ذلك، منذ متى يحاسب الأفراد على نياتهم وليس على أفعالهم؟ فإلى أن يثبت أن الشاب والفتاة عنصران «مندسان» لإثارة الشغب وتهديد امن مجلس النواب هما مجرد مراهقين تسنى - بل لم يتسن - لهما احتساء القهوة في وسط المدينة. وفي أسوأ الأحوال (وربما أحسنها!) قد يكونان جزءاً من مجموعة تحلم فعلاً بمواطنة حقيقية بعيداً من المحاصصات الطائفية. في هذا الحلم بعض السذاجة ربما لما يشوب البلد من أزمات سياسية تعيق إسقاط النظام الطائفي، لكنه حق مشروع أن يريد الشباب لأنفسهم غداً أفضل لا يتزلفون فيه لزعيم أو مسؤول. لكنه التنميط الذي تعتمده الأجهزة الأمنية حيال الأفراد حين يعتريها الخوف. فيصبح وهم الخطر أكبر منه، وكل من يتسبب به يجب محاربته وإقصاؤه. لكن اللافت أن هذه الأجهزة نفسها لم يرهبها شبان بقمصان سود نزلوا إلى الشوارع قبل فترة بحجة «الذهاب في رحلة إلى الثلج»، ولا شبان مسلحون في أحياء داخلية للعاصمة ولا حتى آخرون أطلقوا اللحى وحلقوا الشوارب معتمدين «اللوك» الأفغاني. أرعبها قميص أبيض بكوفية.