في رواية «حصن التراب» (دار العين– القاهرة ) يعمل أحمد عبداللطيف على منطقة تاريخية مختلفة عن رواياته السابقة وإن بدت تتلاقى معها في محاور سردية أخرى. يحضر هنا التاريخ السري للموريسكيين في الأندلس، من خلال حكاية عائلة موريسكية يتتبع سيرتها الكاتب عبر ما يزيد عن مئتي عام، لتكشف الماضي في انزياحاته المؤلمة على الحاضر، وبين فعل النحت والكتابة، والوثائق العصرية المستندة إلى الوسائط الإلكترونية يتشكل عالم رواية «حصن التراب»، وبين التشظي الزماني والمكاني، وغياب الأبطال وحضورهم تتكون الرواية من فصول صغيرة مكثفة، بجمل متأنية وقصيرة بالغة الحساسية والتوتر، بحيث تشبه ضربات فرشاة سريعة لرسام يضع خطوطاً بالأسود والأبيض. يستخدم صاحب «كتاب النحات» تقنيات سردية مختلفة عن أعماله السابقة مستنداً إلى الكتابة الرقمية عبر الإحالة ضمن السرد إلى أغنيات، وقصائد على اليوتيوب، وأفلام تناولت حياة الموريسكيين، منذ الصفحة الأولى ينوه قائلاً: «تحتوي الرواية على إشارات للينكات موسيقية وأخرى لأفلام وثائقية لا يمكن قراءة الرواية واستحضار حالتها دون اللجوء إليها. إنها كذلك جزء أصيل من اللعبة السردية» ومن الإحالات الموجودة، أغنيات لفيروز، ولنداء أبو مراد، ولظافر يوسف، وقصائد لجلال الدين الرومي وابن سهل الأندلسي وآخرين، إلى جانب روابط تحيل لموسيقى صوفية، إذ يطغى على النص حالة من الوجد الصوفي تحضر في أكثر من موضع وتتجلى في التحرك بسهولة بين الانسان والحجر في رمزية تحيل لفكرة وحدة الوجود، لكن ضمن هذا الجو المفعم بالتاريخ والتصدعات الروحية يقف القارئ أيضا على الدلالات السياسية التي يمكن استقراؤها ضمناً، لأنها لا تُطرح في شكل مباشر، بل عبر الرسائل والخطاب الهادف ربما للمواجهة والكشف في آن واحد يقول: «نعلم كما تعلمون يا أبناء عمومتي أنه ليس صراعاً دينياً، وأن الدين مستخدم لتعبئة البؤساء والفقراء، ضد البؤساء والفقراء». تأتي رواية أحمد عبداللطيف لتطرح تساؤلات عن الموريسكيين وهجرتهم، وعن أحقيتهم بالعودة إلى إسبانيا لأنها أرض أجدادهم، وإن كان هذا لا يبدو هدف الرواية إلا أنها تفرض السؤال عبر النبش في التراب عن صراع السلطة الخفي والمستمر عبر قرون والذي يتم استخدام الدين فيه كغطاء للسيطرة وغسل العقول. تبدأ الحوادث عام 1679 أي بعد مرور مئتي عام على مغادرة العرب الأندلس في تطوان، مع أوراق ابراهيم بن ميجيل دي مولينا، أما المكان فهو بيت من «الطوب اللبن يتكون من طابق واحد، وحجرة يتيمة في الطابق الثاني مفتوحة على سطح واسع وخلية نحل». انطلاقاً من هذا المقطع الذي يحدد الزمان، ويُفصل المكان تصير حركة السرد متراوحة بين الماضي والحاضر مع تنوع الرواة وتعددهم، واختلاف محور السرد عند كل منهم لكنه في النهاية ينتهي في مصب واحد هدفه استكمال الصورة لحياة العائلة الموريسكية ثم طردها من الأندلس وتشتتها في بقاع الأرض. هكذا تتناسل الحكايات من خلال الأوراق المكتوبة، قصص خفية عن المدجنين الذين أجبروا على التنصر مع السماح لهم بالبقاء في إسبانيا، أو غيرهم الذين ينحدرون من أصول مشتركة بين الإسبان والعرب، لكنهم يطردون من الأندلس عالم من الألم والدموية والتعذيب يتم الكشف عنه من خلال الأوراق المتروكة، التي نجد فيها أيضاً تفاصيل من محاكمات التفتيش. يتلقى الابن وصية أبيه بأن يكمل نسخ الحكايات وإكمالها، ونقلها للجيل التالي، هكذا «أرشيف حصن التراب كان يتكامل، مع أرشيف أبي وأرشيف كوينكا، الرسائل المتبادلة، والرسائل التي لم تصل. يوميات وقصص وأشعار ورسومات. حياة بشر لم يهجروا لكنهم بقوا منفيين في أرضهم». تحتشد الرواية بتفاصيل رمزية متناثرة على مدار السرد، (الشجرة، البيت، المفتاح، الأحلام، السراديب، الأقبية، المخطوطات، والسحارات العديدة التي تضم الأوراق) أيضاً الحكايات الأسطورية: يتحول مانويل دي مولينا إلى حجر، ويحكي عن آلام الحجارة في رؤيتها للبشر، عن تحوله إلى تمثال على يد نحات يصنعه على شكل قائد عسكري، وعن رؤية التمثال للواقع من حوله. يقول: «في الجبل وقفت مكاني. وبعد فترة ربما دقائق. ربما ساعات. ربما قرون. استحلت حجراً. كيف صار شكلي. لا أعرف. لا بد أني صرت مثل حجر لكني ظللت أسمع ظللت أرى وأفكر». ينحو عبد اللطيف في هذه الفصول نحو روايته السابقة « كتاب النحات» في حضور تيمات ضمنية تتعلق بدلالة فعل النحت، ثم ذاك العالم المزدحم الذي يخلقه من حوله في أن الأشياء لم تكن أشياء، في أن ثمة حياة فيها نابضة نحن لا نعرف عنها شيئاً. يتشكل السرد من خلال أصوات حقيقية وأخرى متخيلة، من هنا يمكن القول أن تداخل الأصوات وتباينها وتفاعلها أيضاً يتصل بفكرة الزمن الممتد، والتقطع الزمني وتلاشي الكلمات المكتوبة في المخطوطات والأوراق، ثم هناك ارتباط تفاصيل صغيرة بالحضور الأنثوي في السرد كما هو الحال مع صوت عائشة وارتباط ظهورها بفكرة البيت وهدمه، إنها الوصية المتروكة من أمها أن تهدم البيت، إن التشظي الزماني والمكاني الموجود في النص بلغ ذروته مع عائشة، ومن قبلها مع البشر الذين تحولوا إلى أحجار ربما لأنهم نظروا في عين ميندوزا، ثم الأحجار التي تتفتت، أو التي تتحول إلى تماثيل تعاني من الألم كما يعاني البشر، إلى جانب البئر التي تنظر فيها كارمن، البئر التي تخبئ الماضي. وإذا كان حضور فعل النحت في «حصن التراب» يتضح من خلال تشكيل النص المنحوت بدقة من تاريخ الموريسكين ليتشكل بفرادة يستمدها من عنايته بالتفاصيل الفنية، فإن انعكاس حركة الزمن في روايته السابقة «إلياس»، يحضر هنا أيضاً من خلال النقلات السردية في زمن متباعد بين تقديم وتأخير. لعل ما أثبته صاحب «عالم المندل» في هذا النص أن السؤال المطروح دائما لكل عمل إبداعي يقارب المرحلة الأندلسية حول ما الذي يمكن أن تقوله رواية جديدة عن الأندلس، عن مغادرة العرب لها، كيف من الممكن كتابة التاريخ من دون الاستناد إلى حائط ثابت من المرويات، ومن دون اللجوء إلى التكرار؟ ثمة ما يقال دائماً في رحلة الكتابة عن بشر عاديين لم يتطرق لهم التاريخ وما زالت حكاياتهم موجودة في الهواء، وبين ذرات التراب، وأغصان الشجر ترتحل من جيل إلى جيل وتحتاج لروح بصيرة تلتقط تفاصيل عالقة في الغيب منذ قرون بعيدة. لكن كما يقول الكاتب في الرواية: «إلى أي مدى يفيد النظر للوراء، وهل باقتفاء الأثر تُسترد القدم المبتورة؟».