ليس بريئاً من يتعاطى التأريخ لمفاصل من زمن الحروب في لبنان لفرط التعددية والانقسامات الطائفية والسياسية في رؤية الأحداث الماضية، فكيف إذا دخل التاريخ كمادة للتوثيق والتشكيل البصري في الفن؟ فالمشهدية التي يقدمها الفنان ألفرد طرزي في معرضه الذي يقام في غاليري جانين ربيز تحت عنوان «عزيزي الجنون»، ثمة مقترحات لإعادة قراءة الزمن ولكن من مقترب شخصي، تسطع فيه أحداث وتغيب أخرى، في حال من الضبابية والاستنسابية، لكأن قراءة الماضي فيه ظاهر وباطن، حيث التعبير عن المصائر المتداخلة التي شكّلت الماضي القريب في لبنان، يتم بوسائط تواصلية تتقاطع فيها الذات مع الذاكرة الجمعية للأحداث والأمكنة. والسؤال المطروح هو هل المطلوب من الفنان أن يتمتع بالنضج السياسي أم بالنضج الفني فحسب؟ فالتاريخ الذي لطالما اعتبره الفيلسوف هيغل متحركاً عبر الزمن، تحول في طفرة المعاصرة مادةً مغرية للحفر من السطوح إلى الأعماق، بحثاً عن الأفكار كمادة حيّة لنقد الواقع السياسي والتعبير عن أزماته وشروخه، وكصرخة للتعبير عن الحياة والحرية والوجود. في خطابه الدلالي لا يبدو ألفرد طرزي باحثاً بالمعنى التقليدي بل متنقلاً وشاهداً على التاريخ الذي يلتقط منه شذرات على هواه. في طريقة استرجاعه الزمن، انتقى الفرد طرزي، أحداثاً مفصلية شهدها لبنان ما بين عامي 2005- 2006 أدرجها ضمن شريط يوميات شبيهة بروزنامة ورقية تلف القسم الأعلى من الاعمال التجهيزية الموزعة على أرض المعرض وجدرانه، تندرج تحتها الأحداث في تركيب مشهدي- بنائي مؤلف من مواد هجينة وجاهزة وأحياناً من خامات فقيرة ومتقشفة (ورق خشب معادن وطين)، في مسار يحدّد- وفق نظرية طرزي- العلاقة بين الحب والجنون. وهي تبدأ بحدثٍ بارز مع عودة تمثال نصب الشهداء الذي اعيد ترميمه أثناء الحرب ليحتل مكانه في وسط بيروت في ساحة الشهداء، ومن ثم لكي يتحول من جديد رمزاً للشهادة والتمرد والحرية، إثر الحدث المدوي لاغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في موقع محاذٍ للبحر في منطقة السان جورج. من هنا استمد طرزي حكاية الجنون من خلال الدلالات العميقة للمكان والتسمية التي تعود إلى جذور دينية تمثل رمزياً الصراع بين الخير والشر. «حين جاء الجنون ونظر إليكم ماذا قال؟.. بلا شك حين ينظرُ اليك الجنون فأنت سترتاب، في هذا الفضاء المختلط، الجنون ملاذ.. أنت تنظر الى عينيّ وتسأل عن الحقيقة، وأنا أنظر إلى الماضي وأشاركك بصمت تلك الحقيقة التي تعلمتُها، وهي أننا بكل صدق نحب حقاً ما فقدناه... وأنا فقدتُها بلا رجعة منذ سنوات عديدة، تلك هي قصتها، جنون! تلك هي مدينتها وها هو بيتها، وها هو الخراب الذي كنا عرفنا فيه الحب، وتلك هي الساحة التي كنا فيها نغني للحرية، وتلك هي الحرب التي واجهناها معاً... اختفت كلها ورحلت». ذلك ما جاء في سياق النصوص التي كتبها طرزي وهي تخاطب المدينة والحبيبة والأمكنة الغائبة معاً وكأنها رسائل حب وشعر وهلوسة وتخييل. ولئن كان الماضي القريب هو حركة هدم للقيم والجماليات والأبنية التراثية، فإن ما فعله طرزي هو إعادة ترميم تلك الجماليات المفقودة في مكان ما، عبر إنشاء عرض بصري مؤلف من عدة هيكيليات تجهيزية ومن مسودات ويوميات تحتوي على مراجع ومعلومات (بعضها مأخوذ من الأنترنت) بين تفكيك وإعادة تركيب وسرد. يبدأ الحفر في الذاكرة من تحليل الخارطة المساحية لبيروت كموقع جغرافي يحمل دلالات لأزمنة متقلبة تتم الإشارة إليها عبر ألوان عدة (أحمر وأزرق وأصفر وأخضر) وربطها ببطاقات نصيّة. بدءاً من زمن الانتداب الفرنسي الذي ترك بصماته على بعض شوارعها وساحاتها وابنيتها، ثم زمن الاستقلال وصولاً إلى الدمار الهائل أثناء الحرب اللبنانية وحركة إعادة الإعمار. يتفقد طرزي البيوت التراثية بعقودها وزخارفها التي كانت تميز بيروت طوال تاريخها لا سيما في عصرها الذهبي في عهد الرئيس فؤاد شهاب، لكي يستمد من وجودها الآفل بعض كسور الذاكرة، كالشبابيك الزجاجية والأبواب، التي يقيم منها غرفة للتأمل الافتراضي في ما آلت إليه حركة العمران في بيروت من اكتظاظ عشوائي للأبنية والناطحات بواجهاتها المعدنية الباردة. تفتح هذه القراءات في التاريخ باباً مشرعاً للفكر والتحليل والتنظير، وهي تستنبط القضايا الظاهرة والعصيّة على الطرح إلى الواجهة. هكذا تصبح قراءة الأحداث ممكنة باحتمالياتها وخلفياتها وتقاطعاتها النابعة من فرضية انطولوجية تتعرض للأحداث الماضية من زاوية فردية حتى تصل الى الالتباس والتضليل. الدمج بين تيمات متعددة كالدين والعنف والقتل والاباحية للخروج من باب التاريخ إلى كشف الغوامض المثيرة في حياة بعض الراحلين، هذا الكشف الذي يتأتى من ذكريات بائدة لنساء من بيوت الحب التي كانت معروفة في العصر الذهبي لبيروت. الحب بطابعه الشهواني المثير المندمج بالصور والشعارات والملصقات والكتابات الحائطية حيث تمتزج الأمكنة بالأزمنة، هكذا تبدو الأشياء متراكمة هشة، انتقائية غير أمينة وغير حيادية، في الحفر داخل اركيولوجيا الذاكرة، بُغية التلاعب بالزمن بدافع النقد والسخرية والعبث بالوجود. الحب لفرط ما هو متأرجح، التاريخ كحجة واهية للإسترجاع وإعادة التركيب والسرد، أما نقد الواقع السياسي اللبناني فهو كمادة لحركية نامية نابضة بالتجريب الممتع والحر، الأمر الذي يجعل هذه الممارسة الفنية لدى ألفرد طرزي مكوناً ثابتاً من مكونات التجربة البصرية التي يمكن ان نصفها بأنها عاطفية- دلالية مسيّسة وفردية بامتياز.