بريشتة الهاذية، يحتضن الفنان فيصل المشاري العالم ليحيله الى مسرح يموضع فيه أناه الاضمارية، بطلا وحيدا، اذ يضفي على الموجودات معنى خياليا، هو في الاصل موقف فلسفي، يبتغي به تذويت الوجود، ليعيده الى مجازيته كما خبرتها بكرية الذات، وكأن لوحته تردد شطحة شوبنهور الرومنطقية في جنون آسر العالم هو خيالي انا، التي يقترح غاستون باشلار تغييرها الى العالم هو شهيتي بالنظر الى تناسب الذات مع الحاجات والشهوة. ذات اذا ثمة ذات واعية خلف ريشته المتمادية في عبثها التجريبي، تسيل بنعومة فائقة على مفردات لوحة طازجة تحدث للتو والان، فيما يشبه هيوليه واقع متخيل، يعادل فعل الحدوث والصيرورة، ، في وسن المسافة بين الحلم واليقظة، كشكل مسرحي يمكن به مخاطبة احاسيس الانسان في هذا الزمان. وكما يوسع فن التصوير العالم بوصفه جزءا من الانا حسب ارثر اشبنجلر، او بوصفه عالم الذات الذي يصور فيه المصور نفسه ويرى المشهد فيه ذاته، تصوغ ذاته العليا، كمركز روحي وبصري للعمل الفني، استيهاماتها بمخيالية فارطة في انساق درامية، هي بمثابة صور قبلية لوجود يعاد تركيبه في لقطات بصرية ذات طابع فرضي. فرصه على هذه الفرضية الفنية، يمكن استدعاء بصيرة ميشيل فوكو الانطولوجية لاستبطان الحساسية الجمالية، لمنجز المشاري، المحرض على النظر اليه كنظام من القيم الفنية والطاقة الجمالية معا، المستحلية ادائيا الى لوحات، او قواعد ورسوم فنية، حيث يمكن استقصاء موقفه او رؤيته الكونية عند الاحتكام الى النزعة الانسانية للعملية الفنية، واعتصار المعنى الفني المتمثل في صيغ من الانسجام والوحدة والتوازن، عند تأمله كمكمن للجمال. معطيات وبهذا التفريع الانساني الجمالي تنتفي عن نصه البصري سمه الاعتباطية فهو ليس مجرد كتلة من العلامات التشكيلية المغلقة بصورة مطلقة، انما تتأتى مبرراته الفنية من معطيات ذهنية وبصرية كثيفة الحضور. وهو من الوجهة البنيوية، امكان جمالي مستولد من الذات ومستدمج بانساق موضوعية عليا، او هكذا يفترض محاورة بناه المواربة او المطمورة بسطورة الشكل، حتى في اقصى تأمثلها اللاشكلاني. جماليات وبقدر ما تولد خربشاته اثر اجماليا غامضا وملذوذا، تحيل الى مرجعيات واقعية تحايث المعاش، وتحدث فيه فهي ليست بعيدة المنال حسيا، وبموجبها يمكن افتكاك معنى الحاح المشاري على تأوين ذاته، بوجهة نظر بصرية، ازاء الزمان والمكان، ففكره الجمالي المعبر عنه بمنجز فني لافت، ليس نتاج الانا الصافي تماما، اذ فيه من التصورات المكرسة الموروثة (الشكلانية واللاشكلانية) وايضا المنتجة كتجريد عابر للواقع بمخيلة تطال اللانهائي، بالاضافة الى تلك المخلقة ضمن صيرورة الوعي وفوراناته. جدارة فن بهذا الاشتهاء الحاد للتشبه بالحياة والامتزاج بصبوتها، جدير بالتأمل، لما يتضمنه من استعادة واعية لثالوث (الطبيعة المرأة الفن)، وبما هو موعود على مستويات متعددة، بتسجيل نجاحات ذوقية على محك الناقد الاكبر وهو الزمن. وهو محرض على التشابك بخصائص المشاري المزاجية والذهنية، وموجب لتأمل حيله البصرية وتقنياته الادائية، التي يتبناها ويطورها وفق خاصياته النفسية المتواشجة بأقاليم الحلم والادارك والذاكرة والتفكير والتخيل، المؤمثلة فنيا كرموز لمتعة التخاطب والاتصال. سيرة هكذا يسرد المشاري بخطوطه والوانه سيرة أماكن وذوات وحالات شعورية اطال المكوث في انسجتها حد الاقامة الحسية، فاللوحة بالنسبة له واقعة عاطفية، يتحسس خلايها وامشاجها بمجس نوفاليسي (استجمالي) حيث يحدث تماسه مع المرئي كمادة بصرية تتوصل صوغا. يستجيب لاستغاثاتها، ليشكلها بديونيزية فيها من كثافة وقوة التمثل المحاكي للاصل والمزاح شكليا، لا تخلو من ابولونية مهيجة للعين التي تتلقى منها قوة الرؤية، حسب التصور النتشوي للعملية الابداعية، حيث التناوب او الامتزاج بين روح الحلم والنشوة. حلم بتلك المزدوجة الذهنية - الحسية يقترب من شعرية الوجود وحلمية الموجودات الملمومة جماليا بارداة الحياة، حيث تناغم النظام من الوجهة الموضوعية وحرية او فوضى الحس واللاعقلانية كنزعة ذاتية، تسيطر بموجبها ذاته على تطرفاتها الجمالية ولكنها لا تذوب في صوفية رومنطيقية صرفة، فثمة حياة (معاشة ومتخيلة) يمنحها المشاري كواقع متخيل، شكلا فنيا، بنقلة تعبيرية، اذ يزيحها من استغلاقها المادي، ومن هامشية غفلتها، الى هيئات متصورة، او لوحات فنية مشحونة بالصور التعبيرية الفائضة بالدلالة والمعنى، كتعبير حسي عن الفكرة، بملامسة شعرية، ولكنها لا تتصعد ذهنيا لتصير عقلا محضا، وقوفا على حافة الخط الاحمر الذي رسمه هيجل لتشيؤ الفكرة من الوجهة الجمالية. حداثة على هذه الحافة الحادة يجهد المشاري للتوفيق بين بؤس المعطي وتعاليات المحلوم به، بنزعة حداثية تبدأ من الحاحية البحث عن فن مستحيل (هدمي / بنائي) لا يكون العمل فيه حسب (غايتان بيكون) مجرد تعبير عن تجربة سابقة بتقنية تنفيذية متعارف عليها، لما تم رؤيته او تصوره، انما يصارع اسلوبيا في محاولة جادة وواعية للخلق والابداع، ليوفر رؤيويا ما لم ير من قبل، بحيث يشكل ويصنع بدل ان يعكس، وتتأتى تلك النزعة الحداثية من موضعة الذات على خط الزمن، واحساسها الحاد بجوهرانية الحاضر كعنصر تكويني للتجربة الجمالية. رموز بهذه النقلة التعبيرية الواعية التي تنم عن موقف وجودي متطرف من الوجهة الجمالية، يعبئ العالم ذهنيا في حزمة من الرموز، تقوم على علاقة تراسلية بين الشكل والمدلول، اذ تنبثق مدلولاتها او تمثلاتها المشخصنة انبثاقا تلقائيا ومستقلا عن شكلها الحسي القمين بتمويهها فنيا، واعادة صياغتها في وحدات تشكيلية تهجى المشاري اولياتها في مرونة العماء الشكلي لمفردات (السحاب والجدار) فتلك الرموز الملغزة في ذاتها اصلا، والمستوعبة دلاليا، لا تتبدى جوهرانيها في الشكل المعطى لها، ولا في تمثلها الخارجي، فهي من الوجهة الفنية مفردات ممسرحة بطبعها، تشبه في طواعية تشكلها، مرونة الوحدة الايمائية في المسرح الفقير عند غروتوفسكي، فلها كما للممثل امكانية التحول في لحظة خاطفة من عمود اضاءة الى شجرة، ثم الى منضدة، او ربما خطيب وهو الامر المؤكد عليه ادائيا في مفردات المشاري منفلتة في غرائبية تشكلها، المتأتية من مخيلة بارعة في انتاج المجاز، واخضاعها لسطوته. تصور ذلك هو التمثل الاستثنائي غير القابل للعرض للمخيلة في حرية لعبها، حسب تصور كانت للفكرة الجمالية، القائمة على جمال الشكل كمركزية لعلم الجمال، حيث الحرية التي لا تسمح برؤيتها الا في اثارها، دون حاجة لمؤثرات سينوغرافية باهظة، ولا لوسائد ديكوراتية محنطة تثقل جمالية العرض، ودون اللجوء لمضخمات صوتية، او مكياج واقنعة للعمل كرافعة اضافية للنص، فكل شيء عضوي واصيل ينطلق من العنصر التشكيلي المسرحي ويعود اليه. بعد هكذا هي رموز المشاري، الموغلة المبثوثة في اعماله كاشارات حداثية الروح، المستمدة من دلالات شديدة الصلة بمنزعه الانساني، كآصرة ربطية بين العقل والجمال، او لما يسميه ميشليش الجهل العارف ويوحده في الرمز كمعرفة سامية لما هو فائق الوصف، حيث يشطح به ويصعده بجرعات تخيلية ليكسبه بعد انطولوجيا، عوضا عن دلالاته المعرفية، اذ يصعب الفصل بين ما يتمثله من رموز كشكل وبين ما يستبطنه كشعور. الحب في الزمن، توحد مخيلته الشكل بالشعور، فمفردة الحب الاثيرة في اعماله، غالبا ما يرسمها كوحدة تشكيلية في هيئة سحابة زرقا طرية، هي بمثابة حاجب يلتحم عضويا بعيون بؤبؤها (نقطتها) شمس، او يظللها بتموجات راعشة، تتشكل كمفهوم ثيمي وفق مواجهتها لمفردة مضادة، حيث تكتسب طبيعة، او ربما ولادة فنية جديد مستمدة ملامحها من اصلها التكويني الاول، ومنزاحة عن اشتراطاته الشكلية. غلاف وقد تحولت احدى صيغها المكثفة الى غلاف تعبيري لمجموعة الشاعر محمد الحرز الشعرية رجل يشبهني، تبدى ضمنها عمق التناغم البنوي وشمولية التلازم الدلالي بين فن المشاري التصويري والنبرة الشعرية الحداثية، كما تتمثل في قصيدة النثر التي تشترك مع لوحة المشاري في روح التقشف وتصديع جملة من الاستقطابات الجمالية المعتادة، وانبثاق تصويراتها كخطفة شعورية مباغتة أشبه بالبرهة الحسية، فثمة الحاح شعوري في لوحته على الاصطدام بالحواس واستفزازها، فهي تتحرك على حافتي الذكرى والاستيهام حتى تصل الى خلاصتها فتبدو مصفاة تدريجيا من شكلانيتها حد الترمز، ليبقى الخيال اصلا جوهرانيا في تشكلها، اعتمادا على حراك الوحدة وكثافتها وتمثلها الاستعاري بمونتاجية غرائبية على شاشة الذهن. مبالغة وربما يبالغ المشاري في فعل التصفية الشكلاني ذاك، ليموضع المخيلة وسيطا تركيبيا بين روحه نصه البصري ولينصبها مجسا تقريبيا بين خصوصية الذاتي وعمومية الموضوعي، على اعتبار انها اي المخيلة هي الممكن بالنسبة للطفل وسديمة اللانهائي، التي يتواطأ على بعث احاريكها بمزيج من العقل والانفعال، لتمارس الروح تمظهراتها فنيا، ويتجسد الجميل في الواقع كتعيبر حسي عن الفكرة، كما تروج اللفتة الجمالية الهيجلية في ظواهرية الروح. تمثل ذلك التمثل الاشاري هو ما ينأى بلوحته عن الثرثرة، فهي غير معنية بالشروحات، وفي جوهرها هي لوحة منزرعة بصور لا تدليلة، وبالتالي فهي اقرب الى الصيغة الاختزالية التي لا تتنازل عن البنية التصويرية لصالح المضمون التصويري، حسب نظرية نورثروب فراي في العملية الفنية، وهو ما يتبين بجلاء في لوحة الغلاف لمجموعة احمد الدويحي. قالت فجرها: حيث التقصيف للمفردات وافقارها التجريدي من اعتياداتها البصرية، مع الابقاء على فاعلية الدلالة. نخلة بنفس الروح الايحائية المتقشفة يرسم نخلة عينها شمس، وشعرها سعف ووجهه ارض فيما يمكن اعتباره من الوجهة الفنية تأكيدا على الوحدة الموضوعية والاستعارية عوضا عن المفهوم، ويميل من الوجهة الموضوعية الى التماهي مع نصيحة روسو الشهيرة بضرورة المسارعة بالعودة الى الطبيعة لمثاقفتها، والنهل من غناها الروحي والبصري والدلالي ايضا. وعلى عكس التكعيبيين هنالك علاقة صريحة، واخرى استبطانية مموهة بين لوحته والطبيعة كمنظومة رمزية، وليس كمجرد انتصابات بيولوجية وحسب، بمعنى ان لفنه القدرة على استنطاق الاصل الطبيعي وتحريكه بمجازية المخيلة وسطوة انطولوجيتها، فتلك الازاحة الشعرية، هي المبرر الجمالي للنأي بلوحته ايضا عن خواء الريفية الساذجة، اي الذهاب بها الى اقصى تطرفات الرؤية الفنية الارسطوية التي تتجاوز بالفن محدودية التقليد او المحاكاة في ادنى متطلباتها الشكلية، لتوكل إليه مهمة انجاز ما تعجز عنه الطبيعة، وتخطيها بنظام ثقافي، هو في الاساس امتداد جمالي لشروطها. اشارات وبتأمل ألفه الإشارات التي تبثها اعماله يمكن الوقوف بشكل جلي على ما اختزنته ذاكره طفولته، وما تأمثل لاحقا بشكل فني كخلائط ومشهديات، لا بالتماثل المظهري مع شكل الطبيعة انما بمحايثة استنسابية لبناها الدلالية والايحائية، فبهذا التشاكل الدلالي يغدو فنه اقرب الى فعل المثاقفة، فهو على صلة بما هو اعمق من الشكل الخارجي واقرب الى ما يسميه فن تجليات الطبيعة المؤكد عليه برسومات تخطيطية غامضة تحقق الانسجام الخفي بين الشكل والمضمون، لتتحقق الوحدة الاستعارية بين الشكل التصويري وبنيته التصويرية. طبيعة وهكذا يبدو لواذه الفانتازي بسحرية الطبيعة مبررا فنيا لتصديع جاهزية الصور المحفورة في ذاكرته، حيث الخيال بكل تجنيحاته المجازية ينقاد الى انفعال طفولي لا يأبه بالواقعي ولا بالموضوعي، بقدر ما ينحاز الى الممكن مهما كان متطرفا من الوجهة الجمالية، فعلى ذلك التمادي المجازي يستعي الجسد المشخصن بعض خصائصه من احيانا وروح المملكة النباتية، بتعبير موريس لينهارت، فيما تعتبر حالة من التماثل البنيوي او التناظر الوظيفي، فالخيال عند المشاري هو المولد للصور الحسية المتحولة بدورها الى صيغ وتنويعات بصرية تتبدى في هيئة اشتقاقات شكلية محورة. جوهر ولان الطبيعة ليست امكانا ماديا محضا، كما انها لسيت نشاطا روحيا صرفا، يتورط المشاري في طبيعة يشاكلها وتغمره في آن، ولا يكتفي بتعاطي مظهرياتها كإقليم وتضاريس، انما يمتزج حسيا بجوهرها، فيما يشبه الصورة الحدسية المحدثة للمخيلة الاغريقية، حيث تتقلص المسافة، حد التطابق، بين ما تزعمه ذاته الفنية وموضوعها، اي بين سطوة احساسه، وبين ما يوازيه فنيا من انتصابات رمزية (بصرية) في لوحته. ذاكرة وفق ذلك التماس الحسي الحاد تنبنى لوحته، اي كحقيقة شعورية ذات وطأة عاطفية (مكانية وتاريخية) لتجيب على مستعصيات جمالية بموجب ما تختزنه ذاكرته وتراه عيونه، على اعتبار ان الذاكرة هي المعادل الحسي للزمن او التاريخ بكل ازدحاماته الموضوعية والروحية، فثمة احساس تستبطنها بالذهاب الى جهة معرفة ومؤسطرة في آن، يمكن بلوغها بتأمل شعرية الرؤى البصرية الكامنة في لوحته، التي هي في الاساس النسيج الحقيقي لوعيه الحاد بالطبيعة، تماسه بكل ما هو مشتق منها بصريا وروحيا. مثاقفة وهكذا يثاقف مستحيل الطبيعة بالممكن الثقافي، يشتق منها بصريا ويتعلم من سيمتريتها قوانين الصفاء والوحدة والانسجام والحركة، فهي حنينه الحاد والازلي، او ما يسميه مرسيا الياد (غبطة البدايات) اي زرقة بحر جيزان، وخضرة جبال ابها، وبياض صحراء الرياض، وما بين تلك الاقاليم من مادة متحولة الى صور بليغة محقونة بالدلالات والمعاني، فتلك المتواليات ليست سوى قناع شكلي لاحساس اكثر جوهرانية. منظور واذا ما اخضعت لوحته الى قراءة ما بعدية اي متجاوزة لاثر، او دهشة الصدمة الجمالية الاولى، والذهاب في تأملها الى ما وراء نظامها البصري، فيما يعتبر قراءة بالعين الاستدراكية الثالثة، تتبدى العلاقة الوثيقة الواعية بجسد الطبيعة لا بصورتها، فهو يرسم الطبيعة من داخلها، حتى وان لم تتمثل مظهريا وفق المنظور الراسخ بيولوجيا كاعتياد بصري او طباقي، فالمحو الذي يمارسه لانشاء المعنى الجمالي، يبقي على بعض العلامات الايمائية الدالة على الاثرا لمحفز على الادراك. دلالة اذا لوحته دلالة بصرية على وجود مادي وما مفرداته سوى مادة حية ممنوحة شكلا، حسب التصور الارسطي للعمل الفني، مستدعاة كما تفترض العملية الابداعية بالحنين والاستغاثات والدمع والقهقهات، ومستمدة جماليا من عذرية النبع الذي اختبرت بموجب فتنته الحواس، فتلك هي ذاكرته السامية، كما يسمي ميشليش مكمن البراءة الانساني، كمعيارية فطرية للجمال الخالد، فرغم طابعها التخيلي الفارط تغدو محتملة، وعلى حين تبدو واقعية فهي مؤمثلة، واذ تبدو منتهية فهي في جوهرها لا نهائية فلها سمة الطازجة وديمومة الاثر الآسر بالمتعة والفكرنة. شعرية بهذه المحايثة الضمنية تدين لوحته للقيمة الشكلية واللونية والدلالية للطبيعة، وان بمفارقة فنية بين استقلالية حياة اللوحة، عن حياة ما تنقله، حسب فرضية بيكاسو عن الحقيقة التصويرية، والتي يمكن تلمسها بوضوح في لوحة قبل المطر فالمشاري بمجازه المتمادي في هذيانه يمنح مفرداته سمه شعرية ليتخفف من صرامتها الموضوعية، ربما ليستشعر امكانية الاستيلاء على العالم، واعادة تعبئته في صور حلمية صغيرة هي بمثابة المصفاة من حسها التفسيري. كاريكاتير ذلك التقطير القصدي للمفردة حد امحاء المتعارف عليه من حوافها، هو ما يشي بصيغة متجاوزة من صيغ التصوير الطليعي، حيث تنهض بصيرته بقابليات مرآتية متعددة للرؤية، تذهب احيانا الى حافة تهكمات حاذقة اقرب الى فن الكاريكاتور، بما يكتنفه من مزيج بين المخيلة والواقع، متأتية اصلا من قدرة استثنائية على اكتشاف المفارقة في المعطى الانساني، والاصرار على تخييله. انثوي وبقراءة تأويلية، يمكن تلمس الروح الانثوية المستبطنة لتلك الصور، فاشتقاقاته البصرية ذات كينونة انثوية، فهي مرتبطة بكل ما هو ارضي، وبالتالي هي امتداد للامومي، والانثوي الصريح كمفردات، وكخطوط اميل الى التلوي والانحناء الضاجة بالحس الانثوي، وابعد ما تكون عن الاستقامة والتكسر الادلة على الفحولة، فحتى التمثل الحلمي للمفردات يبدو مبثوثا من ذات فائضة بالحس الناعم للوجود، باعتباره يصدر عن حالم يقظة، وهو من هذا المرقى الحلمي كائن انثوي، حسب غاستون باشلار، والعكس بالنسبة للحالم السلبي المقيم في النوم، وعلى ذلك يستدعي الصحراء في لوحته جسدا، ويستزرعه بمرموزات انثوية صريحة ومموهة. قراءة من هذا المنظور يمكن التطاول تأويليا على حميمياته، والنفاذ الى مخياله عبر خطوطه والوانه واشكاله، باعتبارها الحبل السري المؤدي الى وعي ذاته المبدعة، حيث يمكن قراءة البياض كمعادل فني للصحراء في اعماله، فذلك الاتساع الهائل يؤكد ان الصحراء بالنسبة للمشاري ليست، من الناحية الموضوعية، مجرد رمزية خاصة يتسم بها ابداع وادب الجزيرة العربية، حسب جاهزية التصورات النقدية لثيمة الصحراء، وفق النظرية الانعكاسية. وقد تكون عنده كفنان، كما يتبين من شكل الحنين الذي يحتل لوحاته، حالة من الانئسار لايدلوجيا على صلة ضمنية او صريحة بسؤال الهوية، ولكنها بالتأكيد ليست سياقا ماضويا ماحيا لسياقات ثقافية موازية او حتى مضادة تأخذ مكانها في الحاضر لتلغي الما قبل فحراك بهذا الاتجاه قد يعلي من اهمية المكان باستحضارات نوستالوجية تسجيلية، فيما يكون مبررا للانغلاق والخروج من التاريخ، بل ومن الفن، بهوية عمياء. حضور بالنسبة للمشاري الامر يتعدى خصوصية الموروث المادي، فالصحراء تتجلى في اعماله كعلامة للحضور لا الغياب، وان على حافة حداثة مرتبكة وحذرة بعض الشيء، كشأن جانب كبير من المنتج الابداعي المتولد في تلك الحقبة، فبقدر ما هي انعكاس ابداعي حتمي على مستوى المضمون والشكل، هي علامة تنهض ككينونة فنية بأسلوبية صادمة لتحايث مستوجبات التجديد، وتجيب على تحدياتها. حميمية وككائن وثيق الصلة بلحظته يستعيد المشاري بفضل الفن طبيعته العميقة، او تلك المقموعة والمشوهة بفعل السيطرة الاجتماعية، تماما كما يقترح الن تورين في نقدة للحداثة، اذ يحيل الحياة الى عمل فني لاستعادة الروابط التي توحده كانسان بالعالم عبر الجمال، وان كان لا يخفى خوفه المبرر من الحداثة، فهو حين يتأمل فراغ الأفق حيث تلتقي السماء بالارض دون ان يفصلهما خط، وبابعادهما اللانهائية، حسب قوله تنتابه رعدة شعورية غامضة مختزنة منذ الطفولة، مردها التهديد العمراني المتعاظم، الذي طال ذلك الخط الحميمي لمدينة الرياض، فأي طور تبدلها من محدودية القرية الى متوجبات المدينة، فانطمر تحت وابل من الانتصابات العمرانية. وربما نتيجة لذلك الاحساس الغائر، كرس جانبا من رسماته للدفاع عن تلك الذكرى الاثيرة لديه، فصار يسرد ببصرياته المضيع من حكاية مدينة اخذه في التبدل السريع والمنهك للبصر، لئلا ينطفئ المخيال، وربما لهذا السبب ايضا يعلن حنينه على الدوام الى بكرية الوجود، والى ما يعتبر ذخيرة الطاقة الوطنية، وخزانات الشعور البشري الغائرة والمهددة، للتغلب على ما تسلبه الحداثة وعلى كل ما يتسرب من الانسان على غفلة منه. ولذات السبب يهجس في لوحاته بالهوية والمواطنة والنزعة الانسانية المضيعة، الموشاة على الدوام بحس من الحداي البطيء، فالحداثة هاجس مرعب يستلزم الكثير من الرهافة للتغلب على حس انعدام الوزن الانساني المتأتي من سطوته، فقد كانت الرياض، كما سجلتها بصريا عين المشاري، تنتقل من براءة القرية الى آفاقية المدينة المفتوحة لكل ما هو حديث، ففي تلك الورشة الكونية الضاجة بحركة عمرانية متسارعة، كانت الصورة السحرية لخط السماء تتلاشيء بكل مقوماتها التاريخية والنفسية والاجتماعية والخيالية بل والواقعية ايضا، لتأخذ التجربة البصرية من حيث علاقتها بالشكل بعدا تحوليا على قدر من الاهمية، حيث الارتباك البصري امام شواهق المباني وناطحات السحاب الاخذة في التأسيس لتجربة بصرية جديدة ومتحولة مع خط السماء. لهذا السبب جاء رد المشاري الفني الخطر الذي يهدد هوية المكان من خلال مذهب روسوي قوامه المقابلة المتوازنة بين الطليعة والثقافة، حيث العودة الى الطبيعة، والاستنساب لها، ليكون بمنجي عن مراودات حس التلاشي والضياع والانتحار البطيء الذي يراه اميل دور كايم مرضيا مدنيا معديا بامتياز، فجاءت الكثافة الشجرية مثلا التي يرسمها ويتفنن في مصاحبتها واستنطاقها شكليا. رغم قناعته بحتمية وأهمية التغير والتحول في المجتمعات والبيئات العمرانية، وما يتبع ذلك من تبدل في التجربة البصرية. وقد توضح ذلك الانكفاء او الخوف الضمني من الحداثة بتصويره الخاص للمكان، واستلهامه الذاتي للتراث كما يتمثله دائما في بيت أخضر مبني من كلمة حب في دلالة على تصعيد حس المواطنة والاقتراب من الارض، استئناسا بالملاذ الآمن الكفيل بمنحه الحب والجمال، ولكن على طريقته المحببة، حيث يرسم اليوم الوطني بفانتازية على هيئة دراما بصرية مدهشة سيفين متقابلين على كرسيين وامامهما نخلة يانعة في مزهرية.