كانت ردة الفعل التُركية على المؤتمر الذي تعتزم روسيا تنظيمه بين السُلطة وقوى المُعارضة السورية مُقتضبة للغاية، فُمستشار الرئيس التُركي كاد يختصر الموقف التُركي برفض حضور حزب الاتحاد الديموقراطي وقوات سورية الديموقراطية «الكُردية» هذا المؤتمر، حيث تظهر تُركيا وكأنها تخلت عن كل القضايا السياسية والعسكرية والأمنية الاستراتيجية التي كانت تنسج علاقاتها المُتداخلة مع جارتها سورية، وصارت ترى في المسألة الكُردية كنقطة «اشتباك» وحيدة لها مع القضية السورية. فمُنذُ أن تحول السوريون بالتقادم إلى قوة سياسية واقتصادية مناوئة لتُركيا في المعادلة الداخلية السورية، وشكلوا أداة لخلق التوازن النسبي بين القوى الموالية لتُركيا ونظيرتها الموالية لإيران، تغيرت أولويات تُركيا تماماً. يحدث ذلك على رُغم أن تُركيا سعت دوماً لإطاحة هذا المشروع، فهي ما تزال، كما دائماً، تعتبر المسألة الكُردية خطها الأحمر. ما لا تستطيع تُركيا فعله، هو الاعتراف بالأكراد قوة سياسية ودستورية شرعية، لأنها بذلك تكسر المحرمات السياسية القومية التُركية التقليدية تجاه الجماعة الكُردية في الداخل التُركي. وأي تجاوز لها يدخل في حيز المس بالأمن القومي التُركي، خصوصاً في ما يتعلق بالوحدة الجغرافية والسُكانية. لا تتطابق حساسية تُركيا مع نظيرتها الإيرانية، فتركيا لا تعتبر النفوذ الكُردي مُجرد إخلال بأدوارها وتوازناتها الإقليمية مع الدول الأخرى فحسب، بل فوق ذلك هو أداة لتفتيت الهوية الثقافية والقومية واللغوية للدولة التُركية الحديثة من الداخل. على عكس إيران، التي ترى في النفوذ الكُردي السوري مُجرد أداة مناطقية لإعاقة إعادة هيمنة النِظام السوري على المناطق السورية كافة. كانت المسألة الكُردية في البُلدان الأربعة، تُركيا والعراقوإيران وسورية، تُعتبر على الدوام شأناً داخلياً يمس الأمن القومي لكُل بلدٍ من هذه البُلدان. كانت البُلدان الأربعة تحرص على الدوام لعزل أكرادها عن التأثيرات والعلاقات الإقليمية، التي أياً كانت درجة تفاقمها بين هذه الدولة وتلك، كانت تبقى مُحافظة على توافقها الوحيد، القاضي بأن لا يستفيد الأكراد من أي من تلك التناقضات البينية. سيشكل الاعتراف بالشخصية السياسية الكُردية في سورية كسراً لذلك الثابت الإقليمي، يُضاف إلى الكسر التأسيسي الذي تم بالاعتراف بإقليم كُردستان العراق. سيكون للحالة الكُردية في سورية دور في تطوير التطلّعات الكُردية في هذه الدول، وذلك لثلاثة أسباب موضوعية مُناهضة لتُركيا: 1- تغيير خرائط المنطقة: مُنذ نهاية الحرب العالمية الأولى لم تتغير الحدود الراهنة بين دول المنطقة، فخلا بعض التغيرات الطفيفة التي جرت أثناء حروب المنطقة، بقيت الحدود ثابتة وأساساً للعلاقات المُركبة بين الدول والجماعات الأهلية الكُبرى في المنطقة، ومُحدداً لطبيعة تعامل القوى الدولية مع الدول الإقليمية وعلاقتها بها. سيُشكل الاعتراف الجديد بالحالة الكُردية في سورية أداة لتحطيم هذا الثابت في المنطقة، وقد يؤثر على العديد من الجماعات والتنظيمات السياسية ويُحرضها على رفع سوية خروجها عما اعتبر ثابتاً في التوازنات الإقليمية في منطقتنا وعلاقتها مع العالم. 2- تحريض بقية الجماعات الأهلية للتحول إلى جماعات سياسية: لن تتوقف المسألة عن حدود تحول الأكراد السوريين جماعةً، ورُبما جُغرافيا سياسية خاصة، بل سيظهر لتحولهم تأثيرٌ استثنائي على بقية الجماعات السورية، خصوصاً الأقليات، فالعلويون والدروز السوريون قد يميلون إلى الاعتقاد بأن النموذج الكُردي، من خلال امتلاك مساحة سياسية وجغرافية مُسلحة، وحده القادر على ضمان حقوق هذه الجماعات ضمن الدولة السورية. ويؤثر الظهور السياسي لهذه الجماعات السورية على تُركيا، لأن ثمة بالداخل التُركي ما يُطابقها مُجتمعياً وسياسياً، خصوصاً الأكراد والعلويين. 3- اعتراف القوى الدولية بخيارات الجماعات الداخلية: كانت القوى الدولية هي المؤسسة لحدود الدول الراهنة، وهي على رُغم مناوشتها السُلطة المركزية في واحدة أو أخرى من هذه الدول، فإنها بقيت تعتبرها السُلطة الشرعية الوحيدة التي تتعامل معها وتعترف بها في المحافل الدولية، فالحرب الأهلية اللبنانية لم تسمح لأي من جماعاته الأهلية بأن يحصل اعترافاً دولياً خارج الدولة الرسمية، وكذلك حصل في الصراع بين النِظام العراقيوالولايات المُتحدة، وحالياً في الحرب الأهلية السورية، كان المُجتمع الدولي يعتبر دائماً أن الدولة المركزية لا الجماعات الأهلية والأحزاب السياسية هي الطرف الشرعي المُعترف به. على أن العلاقات السياسية والعسكرية والأمنية الوثيقة التي تنسجها الولايات المُتحدة وعدد من الدول الأوربية مع القوى الكُردية السورية، بشكل استثنائي، لا يشبه تفاعلها مع بقية الجماعات السورية، يُهدد طريقة تفاعل القوى الدولية مع الجماعات الداخلية في هذه البُلدان. *** لكن ما يفاقم صعوبة الموقف التُركي، كون تُركيا صارت الطرف الأضعف في المعادلة السورية، لأنها لم تعد تمتلك إلا الضغط العسكري تمارسه ضد المناطق الكُردية، بينما جميع القوى الحليفة لها، القوى الإسلامية المُسلحة والتُركمان، في أضعف حالتهم، وبقية الأدوات كالتفاوض والقبول بشرعية نِظام الأسد، تضع تُركيا ضمن الاستراتيجية الإيرانية في المنطقة. ترى تُركيا نفسها مُجبرة على التنسيق مع إيران والنِظام السوري حتى تمارس ضغوطاً على المناطق الكُردية. فوق ذلك فإن تُركيا تخشى أن تؤدي إجراءاتها القاسية إلى انعكاسات ضمن الداخل التُركي. وأغلب الظن، فإن تُركيا ستواظب على الضغط على المناطق الكُردية، لكنها ستُبقي مساحة تمايز عن الخطوات الإيرانية، حتى لا تدفع الطرف الكُردي لأن يُصبح تابعاً للطرف الإيراني، وتُبقي مجالاً للأكراد لأن يعودوا وينسقوا مع قوى المعارضة السورية القريبة من تُركيا، وبالتالي العودة إلى ما قبل تحول الثورة السورية إلى نزاعٍ مُسلح، وحصر المشروع الكُردي ضمن ما هو مقبول تُركياً. لكن الخطوات التُركية الأخيرة، في محافظة إدلب وحِصار مناطق عفرين بشكل تام، قد تُنبئ بأن الطرف التُركي يستعد للقيام بجهد عسكري واسع ضد المشروع الكُردي. عندها ستعاني تُركيا من ضغوط دولية واسعة، حتى لا تندفع للقضاء على منطقة النفوذ الوحيدة للولايات المُتحدة والدول الأوروبية في الداخل السوري. كما أنها قد تكون تجربة مريرة بالنسبة إلى تُركيا، لأن دعم النِظام السوري للطرف الكُردي، بل انخراطه المباشر في مواجهة تُركيا، سيعني كسر الإرادة السياسية لتُركيا، وبذا ستكون ضربة موجعة للتطلعات التُركية ومستقبلها في المنطقة. تعرف تُركيا جيداً أن أصعب الخيارات بالنسبة إليها هو القبول بالأمر الواقع، عبر الاعتراف بوجود مُجتمع كُردي سوري على كامل حدودها الجنوبية، يرتبط بعلاقات وأواصر تاريخية مع المُجتمع الكُردي في الداخل التُركي. لأن ذلك سيفرض عليها ترتيبات سياسية وأمنية في الداخل. مواجهة هذا الواقع الموضوعي هو مصدر مرارة تُركيا مما يجري راهناً في سورية. * كاتب سوري