تبدو لوحة العلاقات الإقليمية والدولية الموضوعية لتركيا راهناً مثيرة للاستغراب، فجميع الأنظمة والدول والمحاور التي تعتبرها تركيا نظراءها اللدودين تقليدياً، ترى تركيا نفسها في علاقة طلب لودها وتفاهمها تجاهها، وفي حالة غير قليلة طالبة لتوافق وتحالف غير معلنَين معها. على النقيض من ذلك تماماً، فإن الجهات التي كانت، ومن المفترض أن تكون، حليفة لتركيا بشكل تقليدي، فإن تركيا ما أن تخرج من أزمة مع إحداها حتى تدخل في صراع ومناوشة مع أخرى. موقع تركيا الراهن من القطبين العالميين يرسم أكبر دلالة على التناقض. فتركيا التي كانت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حليفة دائمة للولايات المتحدة وعضواً حيوياً في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، تعيش أسوأ أوقات علاقتها تلك. فهي تتهم الولاياتالمتحدة بعدم أخذ الأمن القومي التركي في الحسبان في علاقتها الحميمة مع «قوات سورية الديموقراطية» وتنمية دور الأكراد في المسألة السورية. فيما تتهم الولاياتالمتحدةتركيا بالتهمة ذاتها، خصوصاً بعد نشر وكالة أنباء شبه رسمية تركية لمواقع مطارات وتمركز للقوات الأميركية في الجزيرة السورية، الأمر الذي قالت عنه وزارة الدفاع الأميركية إنه قد يشكل خطراً على القوات الأميركية. على العكس من ذلك تماماً، تبقى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية وحتى العسكرية والسياسية التركية في تواصل دائم وحميم مع نظيرتها الروسية. وهو أمر ينسب إلى التوافق السياسي بين الطرفين. إذ تعتبر أنقرة أن موسكو أكثر التزاماً ومباشرة في سلوكياتها واستراتيجيتها السياسية في المنطقة، على عكس واشنطن. ويرى أصحاب القرار التركي أن منطقة النفوذ الوحيدة التي حققها الجانب التركي في المسألة السورية إنما جاءت بالتعاون والتفاهم مع روسيا، فيما كانت تركيا في أكثر لحظاتها السياسية حرجاً بعد تدهور علاقتها مع موسكو، إثر إسقاط الطائرة الحربية الروسية. ينسحب الأمر على العلاقة التركية- الأوروبية راهناً. فالنظام السياسي التركي الذي كان يعتبر نفسه جزءاً تاريخياً من المنظومة القيمية والرمزية الأوروبية، يشهد أكثر أوقاته تصادماً معها. والتوتر الراهن بين تركيا والنظام السياسي الأوروبي ليس مجرد أزمة سياسية أو سوء فهم سيتم تجاوزه في الوقت المنظور، ذلك أن الدول الأوروبية تستشعر خطراً داهماً من الاستراتيجية السياسية التركية التي تمزج تلاعبها بالمشاعر الدينية لملايين المسلمين الأوروبيين عبر خطابات الهوية، بالتهديد الدائم باستعمال استراتيجية شعبوية ابتزازية تجاه أوروبا في موضوع المهاجرين والعلاقة مع روسيا وحركات الإسلام السياسي الأصولية. إقليمياً، ليس لتركيا وضع سياسي أفضل مما هي عليه علاقاتها الدولية. فبعد الأزمة القطرية الأخيرة، تظهر كأنها باتت ذات استراتيجية معادية لكل الدول العربية الاستراتيجية، دول الخليج ومصر والأردن، على حساب خيط ود رفيع مع قطر، أشبه ما يكون بشراكة مالية مبتسرة بين الأخيرة والطبقة التركية الحاكمة. في مقابل ذلك، تسعى تركيا إلى توافق وقبول من إيران واسرائيل، وهما الطرفان اللذان تتهمهما بامتلاك استراتيجيات مضمرة تمس الأمن القومي التركي، خصوصاً في الملفين الكردي والعلوي والمسألة السورية. في العراق أيضاً، ترى التحالفات التركية نفسها في مرحلة تحول عظمى، فالتوجس المطلق من الدولة الكردية المتوقعة يدفع تركيا لأن تفكك علاقاتها المتينة مع إقليم كردستان العراق، وبالذات مع الحزب الديموقراطي الكردستاني، وأن تعيد حساباتها مع الحكومة العراقية المركزية. فقد تستخدم هذه الأخيرة في فترة قريبة متوقعة، لإطاحة شرعية الدولة الكردية المستقبلية. حتى في المسألة السورية، ترى تركيا نفسها مجبرة على أن تبدأ سلسة مساومات مع القوى التي حاولت سحق وجودها السياسي، كالنظام السوري والميليشيات الرديفة له. فتركيا صارت تفضل هذه المجموعات والنظام السوري على أي هيمنة ل «قوات سورية الديمقراطية» على مناطق شاسعة من الشمال السوري شرعية. وليس غريباً أن تتخلى أنقرة عن حلفائها السوريين في سبيل موجة تحولاتها هذه، حتى إذا استلزم الأمر أن تعترف بالنظام السوري وتفاوضه. لم تنتج هذه التحولات الكبرى في التحالفات التركية عن ليونة وحيوية سياسية في طبقتها السياسية الحاكمة، بل على العكس تماماً، فتركيا اعتمدت على مدى عقد ونصف العقد في تحالفاتها السياسية الاستراتيجية على مزيج من تناقضات في المنطقة أرادت أن تستغلها وتستعملها بأقصى درجة ممكنة. فحزب العدالة والتنمية تيار سياسي إسلامي محافظ، أراد بناء علاقات غير معلنة مع كل التيارات الإسلامية في المنطقة، لكن من دون أن يتخلى عن علاقته المباشرة مع الأنظمة. هكذا سعت تركيا لأن تجمع بين علاقة متينة مع النظام السوري وأخرى أكثر متانة مع حركة «الإخوان المسلمين» المعارضة للنظام، وحاولت القيام بالأمر ذاته في علاقتها مع مصر ودول الخليج. لكن في النهاية خسرت ثقة الأطراف المتباينة جميعاً. الأمر الآخر كان في سعي تركيا الى أن تخرج من كل تحولات المنطقة من دون أن تخضع لها، أو أن تتأثر بها داخلياً. ودفعتها هذه الرغبة لأن تستخدم جميع الحلفاء في سبيل ذلك، وأن تقدم تنازلات سياسية للدول المناوئة. وبهذا خسرت ثقة حلفائها المباشرين وقدمت تنازلات للدول التي ابتزتها في ملفاتها الداخلية. أخيراً، تدفع تركيا أثمان طموح زعامتها السياسية إلى أن تتحول إلى قوة إقليمية ودولية رائدة ومتحكمة، من غير أن تملك الأدوات والطاقة المناسبة لذلك، وطبعاً من دون حسابات دقيقة حول حساسية أن تحتل دولة ما مكانة استراتيجية تقليدية لدولة أخرى. فبشيء من الصراحة، تدفع تركيا أثمان محاولتها شغل نفوذ إيران في سورية، ومكانة السعودية في منطقة الخليج والعالم الإسلامي، ودور مصر في المنطقة العربية. تركيا ضحية هزيمة النزعة الشعبوية التي أرادت أن تستعملها في وجه دول المنطقة وأوروبا والولاياتالمتحدة. فقد كان ثمة «وهمٌ» تركي متنامٍ منذ بداية انهيار الربيع العربي بأن الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة يمكن أن تخضع لابتزازها الشعبوي، وأن تمنحها مكانة استثنائية شبيهة بما كانت عليه بعد الحرب العالمية الثانية، وأن تغدو سيدة المنطقة بتفويض من القوى العظمى، لكن ذلك ظهر وكأنه مجرد وهم. *كاتب سوري