للعدوى قوة أكيدة في الانتفاضات العربية التي راحت تتناسل واحدة من الأخرى. ولعل انتقالها من تونس إلى مصر كان المثال الأوضح على هذه القوة. لكن تعداد الدول التي شهدت انتفاضات يثبت أيضاً صحة هذا الافتراض. و«العدوى» لم تكن يوماً جزءاً من عدة التحليل المعتمدة في تفسير الظواهر العامة. لم تكن مصطلحاً سياسياً على الإطلاق. وفي العقد الأخير من القرن المنصرم لاحت بوادر اعتماد هذا المصطلح عندما غامر فلاسفة وأدباء في الكلام عن تفسير ظاهرة العمليات الانتحارية بما أطلقوا عليه عبارة «الموضة». كان ذلك اقتراباً من مصطلح العدوى، إذ أنهم قاربوا هذا التفسير من خلال حديثهم عن أثر وسائل الإعلام في إنتاج الانتحاري، ودورها في تقديم صورة له قد تخاطب ميولاً كامنة في شخص لا يمت إلى من تصله الدعوة للانتحار بعلاقة واضحة. تجمع بين «الموضة» و «العدوى» فجائيتهما، واعتمادهما في اشتغالهما على وسائل اتصال حديثة، ويجمع بينهما انقضاضهما على عدو لم يُهيئ نفسه ولم يستعد لمواجهتهما. وإذا كانت «الموضة» قد وظفت في مهمة دموية وغير سياسية، في حين تكمن قدرة «العدوى» في مضمونها الإيجابي المتمثل في نقل الثورة من بلد إلى آخر، إلا أن ذلك لا يُخفف من تشابههما، ومن حقيقة صدورهما عن أصل واحد هو تولي وسائل الاتصال الحديثة عملية تعميمهما. في الثورات العربية الجديدة نحن حيال «موديل» جديد كل الجدة، أوقعنا في حيرة وعجز. فحركات الاحتجاج اشتغلت وفق منطق مختلف تماماً. سورية والأردن مثلاً لا يرتبطان بعلاقات يمكن لها أن توظف في اشتراك مجتمعيهما بثورة واحدة، أو أن هذا ما كنا نعتقده، لكن اشتغال الاحتجاجات في كلا البلدين في فترة زمنية واحدة أوحى بأن ثمة علاقة بين الظاهرتين. علاقة عصية على عقول أعدت لتفسيرات مختلفة. في الأردن ثمة من اتهم «حماس» المقيمة في سورية بالوقوف وراء الاحتجاجات، وفي سورية لمّح النظام إلى أطراف خارجية وراء التحرك، وأشار إلى دور أردني غامض. لكن العلاقة بين الظاهرتين كانت من خارج منطق الأنظمة. فقوة «العدوى» في الحالة السورية - الأردنية كانت مضاعفة، وأن تشتغل الاحتجاجات في عمان فقد مثل ذلك قوة دفع للاحتجاجات في دمشق. الأمر نفسه ينطبق على شمال العراق، إذ أن احتجاجات الأكراد في مدينة السليمانية على سلطة الاتحاد الوطني الكردستاني كان يمكن لها أن تصيب ب«العدوى» أكراد القامشلي في سورية. والحيرة التركية جراء ما جرى أو ما يمكن أن يجري، مصدرها قلق من طموحات أكراد دياربكر. أي حيرة هذه التي يُخلفها هذا التغير الجوهري في نمط اشتغال هذه المجتمعات؟ أن نقيم وزناً ل «العدوى» في تفسيرنا حركات التغيير والاحتجاج، فإن ذلك قد يقارب الهذيان! لكن ذلك حقيقة لا يمكن الصمود في وجهها، والأخطر من ذلك يتمثل في أن قبولنا مرغمين بهذه القدرة المستجدة قد يدفعنا إلى الذهاب في هذياننا إلى حدود أخرى. فماذا لو صحت مثلاً نظرية اشتغال الثورات وفق منطق هندسي. فقد بدأت في تونس وانتقلت إلى مصر، ولكي يكتمل هلال الثورات الأفريقية كان على ليبيا أن تتحرك، وهذا ما حصل فعلاً، فانعقدت الظاهرة جغرافياً، ومع قدر قليل من المبالغة يمكن القول إنها انعقدت هندسياً. وكان يمكن المرء أن ينتفض على نفسه مؤنباً ميله إلى الهذيان لو أن الأمر نفسه لم يتكرر في المشرق، فهلال الثورات المشرقية ارتسم أيضاً على نحو يكاد يكون مشابهاً. من شمال العراق إلى الأردن مروراً بالبر السوري، وهو ما أعطى لوهم المنطق الهندسي قوة واقعية. هلال مشرقي في مقابل هلال أفريقي، ويمكن نسج أهلة أخرى إذا ما أطلنا التأمل. لكن الأمر لم يقتصر على هذياننا، نحن المفجوعين بانهيار منظومة وعينا البائس، ذاك أن هذا الهذيان أصاب أيضاً الأنظمة المستهدفة بالثورات وبحركات الاحتجاج، فانتقلت هذه الأنظمة وعلى نحو سريع من وضعية الارتياب المتبادل، التي كانت تسود علاقاتها قبل موجة الثورات، إلى نوع من التضامن الذي لم يسبق أن شهدته العلاقات في ما بينها. فمع قدر قليل من المعلومات المسربة، وشيء من الحقيقة الممزوجة بالخيال، لنا أن نتوقع مثلاً أن يستعين النظام في سورية بخصومه في سلطة إقليم كردستان العراق، لامتصاص غضب الأكراد في محافظة الحسكة، وأن نُصدق إشاعات حول طلب الحكومة الأردنية مساعدة من نظيرتها اللدود في سورية لكي تلعب حركة «حماس» دوراً مهدئاً في الشارع الأردني، في مقابل تدخل عشائري اردني لدى عشائر درعا للحد من غضبها. وإذا كانت فداحة الجهل ما دفعنا إلى تخيل «أهلة» وفيروسات تنتقل ب «العدوى» تقف وراء الثورات، فأي قدرة خرافية سهلت على أنظمة متحاربة ومقتتلة مهمة التضامن هذه؟ فإلى الأمس القريب كانت السلطة في كردستان العراق تتهم النظام في سورية بتسهيل مهمة المقاتلين العرب المتسربين إلى العراق. والمودة بين النظامين في دمشق وفي عمان مفقودة منذ عقود طويلة. ووسط هذه الفوضى العارمة في مشهد العلاقات، والتي تسببت لنا بصداع معرفي جميل، يصل رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان إلى عاصمة الإقليم الكردي في العراق، ذاك الإقليم الذي لأسابيع قليلة انقضت كانت حدوده عرضة لغارات يومية للطائرات التركية، ويستقبله رئيس الإقليم مسعود بارزاني وتُهديه طفلة كردية علم الإقليم، في مشهد تضامن كردي تركي نادر، ما كان لنا أن نتوقعه من دون وهم أهلة الثورات وفيروساتها. ربما كان الضحك على انفسنا علاجاً لهذا الصدع المعرفي الذي شق وعينا، ولكن علينا أن نحتسب لخطر قد يلوح، إذ أن استيقاظ الأهلة قد يشمل «الهلال الخصيب»... هل تذكرون الهلال الخصيب؟!