باستثناء الجدال الجاري حول وزن أنصار القاعدة والأصوليين المتشددين في الثورة الليبية وقدرتهم على استثمارها، لا يبدو أن نفوذ التيارات والحركات الإسلامية في البلاد العربية التي يجتاحها «تسونامي» التغيير الثوري يثير قلقاً كبيراً في أميركا وأوروبا. وعلى رغم أن بعض المنخرطين في هذا الجدال يتبنون مواقف تنطوي على خوف دفين مما يسميه بعضهم «شرق أوسط إسلامياً» قد يكون في طور التشكل، يظل الاتجاه الغالب حال الترقب سعياً إلى استكشاف معالم الطريق في هذه المنطقة ومستقبل التحولات الجارية فيها. لذلك، لم تواجه الحكومات الغربية ضغوطاً داخلية لمساندة نظم حكم عربية عمد بعضها لفترة طويلة إلى إثارة الفزع من الإسلاميين، كالنظامين المصري والتونسي. كما لا يبدو أن خطاب الرئيس اليمني علي عبدالله صالح في الاتجاه نفسه يثير قلقاً شديداً في الغرب. فحديثه عن أن الشعب اليمني وشعوباً عربية أخرى مرعوبة من وصول الإسلاميين إلى السلطة يبدو كما لو أنه «أسطوانة» مكررة. وكان النظامان التونسي والمصري سبقاه إلى استخدام هذا الخطاب، كل بطريقته، في الأيام الأولى للثورتين اللتين أطاحتهما في النهاية. غير أن معضلة التيارات الإسلامية ودورها في المرحلة المقبلة لا يرتبطان بسياسات غربية، بل بموقع هذه التيارات في الخرائط السياسية الجديدة التي ستتمخض عنها ثورات التغيير في بلاد عربية ودورها في صوغ النظام الجديد في كل منها. وما الصراع الآخذ في التصاعد حول قضية الدين والدولة في مصر وتونس، وتجلياته في شأن مدنية الدولة وإسلاميتها، إلا تعبير عن وجود معضلة كبرى لم تصل أطرافها إلى توافق عليها منذ أن دخل العرب العصر الحديث. ويبدو المشهد في مصر مثيراً لقلق متزايد بعد أن تخلى السلفيون جماعات وتيارات وشيوخاً عن تحفظهم المعتاد تجاه العمل السياسي، ونزلوا إلى الساحة وقد حشدوا جمهورهم الكبير حاملين شعار الدولة الإسلامية. وفي تونس، أيضاً، يزداد التباعد بين التيارات الإسلامية، وفي مقدمها حركة النهضة التي استعادت مشروعيتها أخيراً، وأحزاب وقوى مدنية. لكن الصراع على الدولة الجديدة، وموقع الدين فيها، قد يكون أقلّ حدة في تونس منه في مصر. فالفصل الواضح بين الدولة والدين منذ العهد البورقيبي قد يجعل سقف طموح الإسلاميين في تونس أدنى منه في مصر. وربما يكون إدخال الشريعة الإسلامية إلى النظام الدستوري والقانوني غاية الإسلاميين في تونس التي يخلو دستورها من أية إشارة إليها اكتفاءً بأن الإسلام دين الدولة والعربية لغتها. أما في مصر حيث ينص الدستور على أن الشريعة هي المصدر الرئيس للتشريع، فقد يكون السقف أعلى بالنسبة إلى بعض الإسلاميين. وقد لا يكون الدور المتوقع للإسلاميين في ليبيا واليمن في حال تغيير نظامي القذافي وصالح أقل أهمية، على رغم اختلاف الظروف. ففي ليبيا، يثار السؤال عن دور ما لجماعات إسلامية في القتال ضد كتائب النظام الأمنية. وفي اليمن ازداد دور قوى إسلامية، في مقدمها «الإخوان المسلمون» وحزب الإصلاح وقادة عسكريون قريبون منها كاللواء علي محسن الأحمر، في الثورة ضد النظام. ومن شأن تنامي دور تيارات إسلامية في رسم خريطة الطريق في هذه البلاد، كما في دول عربية أخرى مرشحة لأن يبلغها «تسونامي» التغيير، أن يثير سؤالاً كبيراً حول إمكانات بناء نظام ديموقراطي فيها. فثمة شكوك قوية في أوساط سياسية ومجتمعية يُعتد بها في حقيقة توجهات الإسلاميين الذين يقبلون الديموقراطية ومدى التزامهم بها فعلاً إذا وصلوا إلى السلطة. أما الإسلاميون الذين يجاهرون برفضهم الديموقراطية، بدعوى أنها تجعل الحكم للبشر وليس لخالقهم، فهم يثيرون خوفاً شديداً. وعلى رغم أن حركة النهضة في تونس تعتبر من أكثر الحركات الإسلامية تقدماً في موقفها تجاه الديموقراطية، فثمة شكوك في مدى التزام قواعدها كلها بهذا الموقف، وفي وجود اتجاهات متشددة داخلها تمثل امتداداً لأولئك الذين مارسوا العنف في ثمانينات القرن الماضي عبر عمليات تفجير ورمي بماء النار. وليست جديدة المعضلة الخاصة بإمكان قبول الإسلاميين الديموقراطية. ولكنها مثارة الآن في ظروف جديدة قي بلدين عربيين ستجرى فيهما بعد أشهر انتخابات حرة حقاً للمرة الأولى، وبلدين غيرهما يقترب التغيير فيهما على نحو يثير التساؤل حول مستقبلهما، فضلاً عن بلاد أخرى قد لا تكون بمنأى عن «تسونامي» التغيير. ويعني ذلك أن وصول الإسلاميين إلى السلطة لم يعد افتراضاً بعيداً، بل صار احتمالاً قائماً وربما قريباً، على نحو يعزز أهمية السؤال الإشكالي الكبير عما إذا كان النظام الديموقراطي يتسع لمن لا يقبل الديموقراطية أو يلتزم بها. وهذا سؤال مركزي في تاريخ الديموقراطية منذ ظهورها في القرن السابع عشر. ولكنه مثار الآن في العالم العربي بالأساس بسبب معضلة التيارات الإسلامية وموقفها تجاه الديموقراطية، ونتيجة التغيير الذي يحدث في عدد من بلاده. لذلك، ربما يفيدنا الاطلاع على تاريخ التطور الديموقراطي في العالم وكيفية التعامل مع السؤال عن موقع من لا يقبلون الديموقراطية أو توجد شكوك في التزامهم بها في النظام الديموقراطي، منذ أن طرح جون لوك هذا السؤال للمرة الأولى في «رسالة التسامح» التي كتبها عام 1865 ونُشرت بعد أربع سنوات في هولندا. ولم تكن هناك إجابة واحدة عن هذا السؤال في تاريخ الديموقراطية في الغرب. ولكن خبرة هذا التاريخ تفيد بأن التعامل معه يمكن أن يكون مزيجاً من إجابتين مختلفتين: الأولى أن الديموقراطية لا يمكن أن تكون ديموقراطية إذا أنكرت حق «أعدائها» في التعبير الحر عن آرائهم وتنظيم أنفسهم والمشاركة في الانتخابات. وهذا هو مبدأ فولتير ومن حذوا حذوه: «أنا على استعداد لأن أقدم حياتي ثمناً لحقك في التعبير عن رأيك». أما الإجابة الثانية فهي أن الديموقراطية لا يمكن أن تكون ديموقراطية إلا إذا قامت على قانون يحدد الحقوق والواجبات، ويفرض على الجميع الالتزام بقواعده وضوابطه. فالديموقراطية هي دولة قانون بمقدار ما هي دولة حريات. والقانون هو الذي ينظم ممارسة الحريات بحيث يوقف حرية كل واحد عند حدود حرية الآخر. وليس من دولة ديموقراطية إلا ولديها القوانين التي تنظم ممارسة الحرية، بحيث لا تكون حريتي على حساب حرية غيري. ويمكن أن يكون التوافق على أن النظام الديموقراطي يتسع للجميع ولكنه يفرض عليهم في الوقت ذاته الالتزام بقواعده خطوة أولى باتجاه حل معضلة موقع التيارات الإسلامية في هذا النظام.