تجدهم في كل مكان مطأطئي الرؤوس، لكنها طأطأة العزة والكرامة، محنيي الظهور، لكنها انحناءة العظمة والرفعة، محدقي العيون لكنها تحديقة من لا يلتفت كثيراً لما يجري حوله، محلقي الأفكار لكنها تحليقة لا إلا هم والقابعون على الطرف الآخر من خيوط العنكبوت. الدوائر التربوية والاجتماعية في بريطانيا لا تتحدث هذه الأيام إلا عما فعلته الهواتف المحمولة وقريناتها من الشاشات المتصلة بالإنترنت بالأجيال الشابة والمراهقة. «جيل الصمت» أو «الجيل البعيد القريب» أو «الجيل زد» (كناية عن الجيل الذي ولد متصلاً بالإنترنت) يحير العالم من حوله بينما يبقى هو صامتاً منكفئاً على شاشته. دراسة صدرت قبل أيام عن مؤسسة «اوفكوم» (هيئة بريطانية تنظيمية للاتصالات)، أشارت إلى أن 16 في المئة فقط من الشابات والشباب في بريطانيا بين سن 16 و24 عاماً يعتبرون إجراء الاتصالات الهاتفية الوسيلة الأهم للاتصال. في الوقت ذاته، قال 36 في المئة إنهم يفضلون الرسائل النصية القصيرة سواء عبر الهاتف أو «واتس آب» أو «مسنجر» وغيرها، بالإضافة إلى التواصل عبر الفيديو والصورة واللقطات. الرسائل القصيرة التي يكتبها أبناء «الجيل الصامت» وبناته، لا تتبع أي قواعد نحوية أو إملائية، لكنها تتبع قواعد وضعها أبناء الجيل وبناته. كذلك الحال بالنسبة إلى الصورة ومقاطع الفيديو المتداولة. هي ليست مجرد شاب يتوسط الصورة ويرسم ابتسامة باهتة على شفتيه، أو فتاة تتظاهر بأنها تنظر إلى المجهول. إنها صور ومقاطع فيديو تحمل رسائل مشفرة. يحاول الكبار فهمها، وربما يحاولون بين الحين والآخر تقليدها، لكنها تخرج كغيرها من البضاعة «المضروبة» مجرد تقليد لا لون أو طعم أو نكهة فيه. حتى الرسائل النصية القصيرة التي يكتبها أبناء «الجيل الصامت» أو «الجيل زد»، يتصور الكبار إنهم يفهمون مغزاها لمجرد إنهم يفهمون غالبية الكلمات، لكن هذه ليست حقيقة، إذ يبقى المعنى في بطن كاتبها ومستقبلها. الدراسة التي تأتي نتائجها متوقعة تماماً وشبه معروفة مسبقاً بالنظر إلى وضعية أجساد الأجيال الأصغر سواء جلوساً محنية على الشاشات أو وقوفاً منكفئة عليها أو مشياً موزعة نظرها وتركيزها بين الشاشة ومحاولات عدم الاصطدام بالأجسام الصلبة والحية في الطريق. وعلى رغم ذلك فقد أثارت مقداراً غير قليل من الاهتمام الممزوج بالقلق والخوف وكأنها مفاجأة. عدد كبير من البرامج التلفزيونية والإذاعية في بريطانيا يطرح نتائج الدراسة بين الحين والآخر، وذلك بعد ما أفردت لها نشرات الأخبار مساحة لا بأس بها لا سيما وهي تزاحم أحداث المنطقة العربية وجولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الآسيوية وغيرها من شؤون الكوكب. كوكب المدارس الثانوية في بريطانيا لم يكن يسمح حتى وقت قريب للطلاب باصطحاب هواتفهم المحمولة إلى المدارس أو على الأقل إلى الفصول الدراسية. لكن السنوات القليلة الماضية شهدت واقعية في التعامل مع «الجيل الصامت»، إذ فقد العديد من المدارس الأمل في السيطرة على طوفان الهواتف المحمولة التي تبدو وكأنها تأتي إلى المدرسة ككيان واحد مع أصحابها. وعلى رغم ما يردده نظار ومعلمون في مدارس بريطانية عدة من أن الهواتف المحمولة لها فوائد تعليمية كذلك، إلا أن المؤشرات تؤكد أن فوائدها التعليمية أقل بكثير من سلبياتها. جانين (39 عاماً) لاحظت تغيراً كبيراً في أداء ابنها (16 عاماً) الدراسي منذ انتقل من مدرسته القديمة التي كانت تسمح للطلاب باصطحاب هواتفهم ومدرسته الجديدة التي التحق بها العام الحالي والتي تتبع قواعد صارمة تمنع الهواتف المحمولة في المدرسة تماماً. تقول إن تحصيله الدراسي أفضل، ودرجة تركيزه واستيعابه في المدرسة أكبر. ويبدو أن ما لاحظته جانين له بعد علمي. فقد أوردت دراسة أخرى صدرت مطلع هذا العام أن المراهقين الذين يستخدمون هواتفهم المحمولة أقل من أقرانهم يحظون بعدد ساعات نوم أكثر، ومن ثم يستيقظون وهم أعلى قدرة على التحصيل الذهني والنشاط البدني. لكن الأرقام لا تشير إلى «استخدام أقل» أو «ترشيد أكبر» للهواتف المحمولة بين الأجيال الصغيرة، بل العكس هو الصحيح. فالأرقام في بريطانيا تشير إلى أن 74 في المئة من المراهقين والشباب تفضل الكتابة النصية باعتبارها وسيلة التواصف المرجوة. كما أن 62 في المئة من الشباب يفضلون أن ينسوا حافظات نقودهم في البيت عوضاً عن هواتفهم المحمولة. وقال 70 في المئة من المراهقين والشباب إنهن ينامون على بعد ذراع مفرودة من هواتفهم المحمولة. وقال 50 في المئة إنهم يستيقظون لدى دقة الهاتف المنبئة بوصول رسالة أو بدء دردشة على أحد مواقع التواصل وذلك للاطلاع والمشاركة. وبالطبع فإن دخول الحمام لا يعني عدم دخول الهاتف المحمول، فهو يصاحب 66 في المئة من الشباب والمراهقين لحين قضاء الحاجة. حاجات لا أول لها أو آخر يقضيها «الجيل الصامت» عبر هذه الهواتف الصغيرة لا يعلم عنها الكثير من الأهل. والمقصود ليس الأنشطة غير الأخلاقية أو الاتصالات بأشخاص قد يمثلون خطورة أو حتى الاطلاع على مواقع أو معلومات غير مناسبة، ولكنها تعني عالماً كاملاً مغايراً لذلك الذي يحيط بهم. وهو لم يعد عالماً افتراضياً، بل أصبح لكثيرين من أبناء الجيل الصامت عالمهم الحقيقي. الحقيقة التي يهرب منها الكثير من الكبار، بمن فيهم الأهل، هي أن أبناءهم، سواء الذين ينتمون إلى الجيل الصامت أو من سبقوهم والملقبين ب «جيل الألفية»، يعيشون في عالم مغاير لعالمهم. هذا العالم سمته الصمت، لكنه صمت معبأ بصخب لا يسمعه سواهم. الجيل الأكبر، جيل الألفية في بريطانيا، هو الجيل الذي شهد في طفولته بداية اقتحام العالم الافتراضي بخيوطه العالم الواقعي. شهد هذا الجيل، وهو حالياً في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات، عمليات شد وجذب مع الأهل حول كم استخدام الإنترنت. أذعن حيناً ورفض أحياناً. لكن الجيل الحالي لم يذعن يوماً، حتى وإن بدا غير ذلك. أبناء هذا الجيل نشأوا وشاشات الهواتف المحمولة المتصلة بالشبكة العنكبوتية جزءاً لا يتجزأ من حياتهم. ويظل كلا الجيلين (18-30 عاماً) مثاراً للدراسات ومحاولات فك الشفرة. شركة «لايف بيرسون» المعنية بمنتجات يتم تسويقها عبر الرسائل النصية أجرت مسحاً في كل من بريطانيا وألمانيا وأستراليا واليابان وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية شمل نحو أربعة آلاف شاب وشابة تتراوح أعمارهم بين 18 و34 عاماً. وقال 74 في المئة منهم إنهم يفضلون التواصل مع الآخرين عبر الرسائل المكتوبة حتى وإن كانوا على مقربة منهم، وليس من خلال التحدث مباشرة معهم. لذا كان من الطبيعي أن يتقبل أبناء الجيلين «الصامت» و «الألفية» اعتبار إيقاف الحديث مع أحدهم من أجل كتابة رسالة نصية أو الرد على أخرى أمراً مقبولاً تماماً. وكذلك لا يعتبرون الدق على الهاتف أثناء تناول طعام العشاء مع الأسرة أو الأصدقاء أمراً غير لائق، بل من غير اللائق ترك الطرف الآخر رسالة لا تأتي. هو عالم مختلف، وجيل مختلف يبدو منفصلاً لكنه في حقيقة الأمر متصل ولكن تبعاً لقواعد اتصاله التي لا يعرفها سواه ولا يملك إيقافها أو تغيير إيقاعها إلا هو. حقائق وأرقام عن شاشات اليد وجد الأهل في بريطانيا أن أبناءهم بين سن ثماني سنوات و14 سنة يمضون ساعة على الأقل يومياً يتصفحون مواقع التواصل الاجتماعي مثل فايسبوك وسناب شات وإنستاغرام. أطول مدة انتظار الرد على الرسالة لا تزيد على 15 دقيقة. متوسط سن أول استخدام للهواتف الذكية 10 سنوات. 6 بين كل 10 مراهقين وشباب يقولون إن أول ما يتفقدونه صباحاً هو هواتفهم المحمولة. نحو 40 في المئة من الشباب والصغار يقولون إنهم يشعرون بالضياع التام من دون هواتفهم. يقول 50 في المئة إنهم يرسلون ويستقبلون الرسائل أثناء سيرهم في الشارع. 7 بين كل 10 من أبناء «الجيل الصامت» قادرون على تخيل عالم بلا طوب ومواد بناء، لكنهم غير قادرين على تخيل العالم من دون شاشة في اليد!