بعد الموجة الاولى من الاحتجاجات الدموية في سورية، خرج أهل الحكم ومسؤولوه ليعدوا بعدم تكرارها، سواء بالاعتراف بحق الشعب في التظاهر السلمي او بضرورة البدء بإصلاحات سياسية مطلوبة. الكلام الكثير الذي قاله مسؤولون سوريون، من وزراء ونواب، كان مضبوطاً بسقف الخوف، الخوف من قول ما لا يعجب الحكم. فبدوا في وضع اقرب الى المسرح الهزلي، ومسلسل «صح النوم»، منه الى الوضع الخطير الذي كان يعيشه الشارع. وبدا لوقت ان مستشارة الرئيس الدكتورة بثينة شعبان ارادت ان تصوب هذه الصورة الهزلية، فتحدثت عن قتلى وعنف وضرورة الاصلاح وتلبية مطالب شعبية. وهذا يعني ان ثمة اعترافاً بخطورة الوضع، لكن الأهم هو انه يؤكد ان القيادة العليا تعرف ما يجري على الارض، وأنها ترغب ان تظهر انها تعرف. وكان في ذلك تمهيد لخطاب الرئيس بشار الاسد الذي، بغض النظر عما قال ووعد، كان يُفترض ان يثبت ان ثمة ادراكاً لكون المشكلة تتصل بتحرك شعبي، وأن عدم تكرار التظاهرات الدموية والحرص على تفادي العنف يقتضيان حكماً التعامل مع جوهر المشكلة. ولو كان الامر كذلك لما تكرر يوم الجمعة الدامي وانتشر الاحتجاج الى مناطق جديدة، على رغم الجدل في شأن وعود الاصلاح المطلوب، ومدى التجاوب مع الجوهري فيه ووتيرته. والخيبة التي جرى التعبير عنها بعد الخطاب تصبح مصدر قلق ازاء احتمال استمرار العنف. وذلك ليس لأن وعود الاصلاح ونوعيتها لا تستجيب هواجس المتظاهرين ومطالبهم، وانما ايضاً للنكوص الذي حصل في الخطاب الرسمي بعد الموجة الاولى من العنف. لا بل قد يكون هذا النكوص معبراً عن معاني الاصلاح المطروح، وهذا ما يثير مزيداً من الاحتجاج ويدفع الى تلك الدوامة من الفعل ورد الفعل وصولاً الى القطيعة ربما. في هذا النكوص تُسجل تلك النظريات الرسمية وشبه الرسمية وتلك المسربة الى وسائل اعلام قريبة الى دمشق، والتي أريد لها ان تدافع عن رواية الحكم عن حصول العنف. فقد اكتشفنا، مثلاً، ان ابطال «المؤامرة» ليسوا الاميركيين او الاسرائيليين الذين يستهدفون الخط السياسي لدمشق، بل مسلحون أرسلهم من لبنان تيار «المستقبل». لكن مطلق هذه الرواية لم ينتبه الى مقدار الاستخفاف بالحكم السوري، المعروف بقبضته الحديد على كل ما يحصل في البلاد، عندما يريد ان يقنع العالم بأن زمرة مسلحة يمكن ان تحدث هذا القدر من الاضطراب في مدن عدة وفي وقت واحد. واكتشفنا مثلاً ان «مشروع الفتنة الطائفية» في سورية ينطلق من الجدل السياسي في لبنان بين قوى «14 آذار» و «8 آذار»، وما يرتبط به من توتر مذهبي، خصوصاً بعد إجبار سعد الحريري على تقديم استقالة حكومته. ولم ينتبه الى ان اسباباً كهذه، في حال صحتها، هي ادانة لجميع السوريين، بمن فيهم الحكم، الذين يؤكدون صلابة اللحمة الاجتماعية الداخلية، وأن اسبابا كهذه تؤثر في بيئة مهيأة لها. اما الحديث عن «مجموعات» او «عصابات» مسلحة تصعد الى سطوح الابنية، في مدن عدة وفي وقت متزامن، وتروح تطلق النار على الناس وقوى الامن، فإنه ايضاً يسلط الضوء على مدى العجز في الاجهزة السورية التي تقف عاجزة عن منع هذا العدد الكبير من المسلحين الذي يسرحون ويمرحون ويقتلون. وتتحول، هنا ايضاً، رواية تريد الدفاع عن سلوك الحكم الى ادانة له. اما ما نشاهده على التلفزيونات من عنف في الشوارع السورية، وما تنقله وكالات الأنباء، فكله مفبرك ومزور، وفق الروايات الرسمية وشبه الرسمية. ويريد اصحاب هذه الروايات ان يقنعوا السوريين الذين يعيشون الايام الدامية بأن ما يرونه ويعيشونه تزوير تفتعله الصحافة العالمية. لقد فشلت الروايات الرسمية وشبه الرسمية السورية في الدفاع عن الحكم. واجتهدت في الاتهام والإنكار الى حد انها باتت سلاحاً ضد الذات.