توجه بنيامين نتانياهو إلى روسيا، فجدد وزير الدفاع الأميركي الحديث عن بعث حل الدولتين. وليس مستغرباً أن تتغافل بعض القيادات الفلسطينية عن سراب الحراك الكاذب فتجتر خطابها القديم الذي عفا عليه زمن الثورات. وليس مستغرباً أن تعيد اللعب على حبل الدولتين الذي صار واهناً كخيط العنكبوت حتى قبل زمن الثورات هذا، خصوصاً عندما ظلت إسرائيل توجه الصفعة تلو الأخرى لأنظمة عربية مهترئة، ظلّت تفرد عباءتها لستر عورة السلطة الفلسطينية وقادتها، كلما انكشفت تلك العورة أمام عنجهية نتانياهو وعصابته. هذا الموقف يدفع إلى التساؤل: أين هي قضية فلسطين في الخطاب الفلسطيني مع غليان الأمة الذي يتفجّر حتى في بلاد القمع العتيقة؟ وهل تنخدع الفصائل الفلسطينية من جديد بتحركات دولية تحاول بعث الأموات على طاولة المفاوضات؟ خلال العقود الماضية، كانت هنالك شعارات «ثورية» تسمّت باسم فلسطين في زمن استقرار الأنظمة وركون الشعوب، وكان قادتها يتفاخرون على العرب بأنهم «ثورّيون»، وكانت هنالك منظمة وحركات تسمت باسم «التحرير» وأسست مجلساً «ثورياً!» في زمن والتخلي عن قضية فلسطين. واليوم تجتاح الأمة ثورات وتهتف في ميادين «التحرير» وتتشكل مجالس عسكرية لا مجرد مجالس ثورية، فأين هي مفاعيل «الثورة» في فلسطين وفي الخطاب الفصائلي وفي تحركات قادتها؟ إذا تعاملنا مع السؤال على أساس الاستفهام لا نجد جواباً، لأن الفصائل لا زالت تحصر قضيتها في إنعاش «سلطة» (انقشع عنها زمن «الثورة»)، ولا زال سقف الخطاب الفصائلي محكوماً بشعار «إنهاء الانقسام» بين غزة ورام الله لترميم بناء «السلطة»، أمّا الظهر المقسوم في يافا وعكا، فهو خارج معاني الانقسام، لأن الانقسام الذي يدور الشعار حوله هو انقسام السلطة لا انقسام الأرض والناس، ولأن الأرض لا زالت وحدة واحدة تحت الاحتلال، ولأن الناس وحدة واحدة تحت قمعه وتنكيله. لا شك في أن الشعارات التي ترفعها التحركات الفلسطينية لا زالت أسيرة المرحلة البائدة، ولا زالت تسبح مع خيوط الشبكة التي حاكتها القوى الغربية، وهي تتحدث عن «سلطة» فلسطينية تنبثق من جسم الاحتلال الخبيث، وتعيش طفيليّة على وحل عام 1967، أما أرض طبريا وصفد وبئر السبع فهي خارج الخطاب السياسي وخارج البرامج الفصائلية، بعد تبني المرحلية. إن الدفع باتجاه حل الدولتين وفرضه كساحة وحيدة للحراك، ليس مستغرباً على أميركا التي حرّكت هذا العرض السياسي طيلة العقود الماضية، بعدما كسرت العراق في حرب الخليج الأولى التي حشدت فيها جيوشاً من مصر وسورية والخليج، كما يفعل الغرب اليوم في حشده ضد ليبيا. هذا الدفع السياسي الأميركي ليس مستغرباً على أميركا الرأسمالية، ولكن المستغرب اليوم هو لغة الخطاب لدى فصائل وقوى «الممانعة» عندما تتحدث عن التهدئة في زمن الثورة، وعندما تسعى لإنعاش السلطة التي تمخضت عن اتفاقات الذل، ولم تتفطن إلى أن السقف الذي بنته الأنظمة فوق رؤوس القيادات الفلسطينية انهار مع ثورات الشعوب، بل وانهارت معه الأجهزة الاستخبارتية التي رسمت مخططاته. والمستغرب أيضاً أن تتحدث بعض القيادات عن ورقة مصالحة تحوّل كاتبها إلى كهوف النسيان، بل تحول بعض أصحابه إلى غياهب السجون بتهمة قتل الثائرين في القاهرة. نعم لقد غاب عمر سليمان عن المشهد السياسي ولا زالت بعض الفصائل تتحدث عن ورقته، ولقد سقط مبارك، ومع ذلك انحصرت مطالب بعض القيادات الفلسطينية في فك الحصار عن غزة، ولم تعل الصوت لإبطال اتفاقية كامب ديفيد، وإعادة سيطرة جيش مصر على سيناء ليتحرك نحو فلسطين، فهل تتناسب هذه المطالب مع خطاب «ثوريّ» يتردد في أرجاء الأمة؟ إن الزمن هو زمن انتفاضات الأمة بينما تقول قيادات فلسطينية إنها ستمنع أي انتفاضة بالقوة! إذاً، إنه زمن الثورة إلا لدى الفصائل «الثورية» ... وإنه زمن التحرر، إلا لدى حركات «التحرر»... وإنه زمن التمرّد إلا لدى «المناضلين» القدامى... فأي تناقض في المشهد هذا الذي نعايش؟! ويتضمن القاموس الفلسطيني وجود أعضاء في المجلس «الثوري»، فأي معاني الثورة تلك التي يحملها أولئك الأعضاء وهم صامتون خانعون بينما يتشكل تسونامي من الثوار؟ وإن لم نلمس لديهم إلا الإصرار على اللهث خلف سراب المفاوضات التي تجاوزها الزمن فحق أن نسمّي مجلسهم بالمجلس التفاوضي لا الثوري. وطالما أن منظمة التحرير قد تخلت عن قيمة التحرير في زمن التحرر من الكبت، فحق أن نعيد تسميتها بمنظمة التفاوض. ليس ثمة تغيّر ملموس لدى خطاب الفصائل الفلسطينية يواكب زمن الثورات، وإن لم تستدرك أبناء تلك الفصائل ثوابت الأمة في هذا الواقع الجديد الملتهب، فلا شك في أنها ستجد أنفسها حماة لقيادات بائدة تجدف بعكس تيار الزمن، كما وجد أصحاب موقعة الجمل أنفسهم في القاهرة في مشهد سخيف. هذا الزمن المنتفض لن يرحم المترددين، وهذا الزمن الملتهب لم يبق فرصة لمن يلعبون بحسب قواعد أميركا، فهي كانت منشغلة في قضايا عدة قبل انفجار الثورات ولم تُعر ملف قضية فلسطين اهتماماً جاداً، فكيف بها اليوم وهي تزداد انشغالاً في محاولة ضبط الأرض التي تتحرك تحت أقدام خدامها؟ إن كل ما حاولت أميركا فعله في الماضي هو أن تبقي أوراق الملف بأيديها كلما تحرّك طرف دولي في محاولة لتسلّم زمام المبادرة، ولذلك عندما يتوجه نتانياهو إلى روسيا تتحرك شفاه الأميركيين تذكّر بأن حل الدولتين الذي طرحوه منذ منتصف القرن الماضي هو الساحة الوحيدة للحراك الدولي، ويجب أن يكون تحت رعايتها دون غيرها. ولكن أميركا تتراجع اليوم، ونفوذها ينحسر. وفي المقابل فإن الأمة تتقدم بعنفوان متحدّية جبرية الأنظمة وقهرها، فهل تستيقظ تلك الفصائل الفلسطينية؟ وهل تتمرد على خطاب تجاوزته الأمة بثورات شبابها؟ أم تجد نفسها خارج زمن الأمة الحي؟