يبدو أن الثورة المصرية التي تروم نقل مصر إلى بوابة التغيير الجذري ستكون كاشفة لاستمرار ميراث إخواني لا يزال مرتبكاً ومتردداً حين يتعلق الأمر بالديموقراطية؛ بحيث يمكننا القول إننا إزاء وضع - لو استمر- سيتحول فيه الإخوان إلى عقبة في طريق الانتقال الديموقراطي. يتجه الإخوان للاستثمار في الديموقراطية إلى أقصى مدى لكن مع حرص شديد على أن لا يدفعوا ثمنها أو حتى يسمحوا لها بالمرور ببابهم. يستثمر الإخوان في أجواء حرية الاجتماع والتظاهر حتى أنهم صاروا يعقدون لقاءاتهم في الشوارع وملاعب الكرة. ويستثمرون في أجواء الحرية الدينية الجديدة التي أتاحت لهم فتح مساجدهم بل واسترداد مساجد كان قد سيطر عليها النظام قبل خمس عشرة سنة، وفرضوا سيطرتهم على مساجد لا تخضع لسيطرة تيار آخر. ثم بدأوا يتحركون لفرض أطروحتهم ومطالبهم على الشارع، ففزاعة الإخوان التي رفعها النظام السابق قد سقطت وهم لن يسمحوا لأحد برفعها مجدداً. وإن كان الواقع يؤكد أنهم الأكثر خوفاً من الديموقراطية ورياحها وأنهم قد يكونون، وليس خصومهم، من يعيد الفزاعة مرة أخرى! لا يزال التنظيم الإخواني سرياً بحيث لم يعلن عن عدد أعضائه أو هيكله فضلاً عن عدم الكشف عن قواعده أو أمواله وكل ما كان ممنوعاً الإعلان عنه بحجة الأمن والخوف من قمع النظام. ولم يصدر عن أروقة الحركة أي مؤشرات عن بدء نقاش له علاقة بالديموقراطية داخل الجماعة بخاصة في ما يتعلق بوضع المرأة أو مستقبل القاعدة الشبابية. ولا يزال التنظيم يرفض أي نقاش حول إدماج المرأة من حيث حق الترشيح أو حتى التصويت للمناصب والمواقع التنظيمية رغم أن فكرة الأمن والخوف على نساء الحركة التي كانت تبرر إرجاء هذه النقاشات قد سقطت. ولا يزال الإخوان بعيدين عن الاستماع للشباب فضلاً عن الاعتراف بدور لهم لذلك رفضوا مؤتمر شباب الإخوان الأخير ( 26 مارس) وقاطعوه بل وحاربوه. أما التيار الإصلاحي الذي ولد من رحم المشاركة السياسية الإخوانية في النظام فقد تم تهميشه كاملاً وزادت عليه القيود، بل تم استبعاده بحيث لم يتم دعوة أي من المحسوبين على هذا التيار إلى النقاش حول الحزب السياسي الذي كانت تفكر الجماعة في إنشائه. وفي قرار مصيري كقرار تأسيس حزب سياسي، تم القفز عن كل المؤسسات الشوروية بحيث تم الإعلان عنه 21 شباط ( فبراير) دون أي عرض على مجلس الشورى، فبدا قراراً متسرعاً كأنما أراد به الإخوان فقط الرد على حكم القضاء بالترخيص لحزب الوسط 19 شباط . ثم رفضت الجماعة كل الصيغ الأقرب والأنسب للديموقراطية والانتقال الديموقراطي في رسم علاقتها بالحزب السياسي المرتقب فاختارت نموذجاً بدا الأسوأ للحالة المصرية، وهو النموذج الأردني حيث تحتفظ الجماعة ببنية شمولية وتؤسس حزباً لا يعدو كونه ذراعاً سياسية غير مستقلة عنها في الهيكلة أو الرموز أو الخطاب. في التعديلات الدستورية وفي ما يشبه التحالف مع المجلس الأعلى العسكري، قام الإخوان بدور بارز في «ترويض» الثورة. أولاً اختص المجلس العسكري الأعلى الجماعة بعضوية مميزة في لجنة التعديلات الدستورية، وكان واضحاً أن ممثل الإخوان كان الوحيد من خارج الهيئة القضائية وما كان للرجل مبرر للمشاركة سوى عضويته في الإخوان في حين استبعدت القوى السياسية الأخري من التمثيل. ثم بدا أن الإخوان أخذوا الإشارة ليمارسوا دور الحريص على الاستقرار الذي يحتاجه المجلس؛ الاستقرار الذي يعني وقف ديناميات الثورة ومساراتها في مجمل الحياة في مصر، على أن لا تزيد الثورة عن مهمة تحريك الملعب السياسي بحيث لا يستمر سقوط بقية قطع الدومينو. قام الإخوان بالواجب وانسحبوا من كل الفاعليات «الثورية» الأخرى وتفرغوا: مرة لإعادة بناء قواعدهم أو بالأصح التواصل معها ومع الشارع، ومرة للحديث عن الاستقرار وتحديد سقف المطالب بخاصة في ما يخص الدستور وتعديلاته. فحين حدث اقتحام مقار جهاز أمن الدولة الجمعة 11 آذار (مارس)، والذي كان آخر أهم الفاعليات الثورية، كان الإخوان يحتفلون بالثورة في استاد الإسكندرية الرياضي قبل أن تسرع أعداد منهم للحصول على «نصيبها» من الوثائق السرية للجهاز. وكان ذلك يعني أن الإخوان خرجوا الآن فعلياً من أي عمل احتجاجي. وفي الحديث عن التعديلات الدستورية قام ممثل الإخوان بكل ما يمكن للترويج للتعديلات وللدفاع عن المجلس الذي دعا إليها وللتبشير بها والتخويف من رفضها إلى درجة بث الرعب من رفضها بذريعة الفوضى مرة، والتلويح ببقاء الجيش وتحول الحكم إلى عسكري مرات عديدة. ربما كانت «معركة» التعديلات الدستورية أهم محطة «يتكشف» فيها السلوك السياسي للإخوان كأوضح ما يكون، و»انكشفت» إمكانات التحالف المستقبلية التي ستحدد خيارات الإخوان والتي ستعتمد كثيراً على التحولات الإيديولوجية التي عرفتها الجماعة في السنوات الأخيرة. فحين اشتدت معركة التعديلات لم يجد الإخوان بداً من الالتحاق بالسلفية في التخويف من»ضياع الإسلام» بذهاب المادة الثانية في الدستور رغم أنها لم تكن مطروحة للتعديل أصلاً لدى اللجنة التي يملك الإخوان، وحدهم، ممثلاً فيها. كان سلوك السلفيين مفهوماً حين تحدثوا عن «الخطر» الذي يتهدد الإسلام إذا ضاعت المادة الثانية في دستور. كانوا ضد الفكرة لكنهم وجدوا في المعركة نجاحاً فاستثمروا فيها لإعادة بناء شرعية جديدة لهم في الشارع الذي خذلوه بسبب موقفهم الرافض للثورة أو الممتنع عنها. وهي شرعية كانت تعني، في نظرهم، أحقية الدفاع عن هوية البلد الإسلامية ودينها وشريعتها في مواجهة النخب العلمانية والمسيحيين والكنيسة. ولنلاحظ أن موسم الخوف على المادة الثانية للدستور بدأه السلفيون، بل بدأه بعضهم قبل حتى أن تنتهي الثورة وتحديداً في مؤتمر الدعوة السلفية بالإسكندرية في 8 شباط وقبل سقوط نظام مبارك بعد ثلاثة أيام... ولكن ما بدا غير مفهوم هو دخول الإخوان على الخط السلفي في مشهد ما بعد الثورة واستثمارهم في موسم التخويف من رفض التعديلات الدستورية ومادته الثانية. لقد قبلوا بالتحالف مع السلفيين وغضوا الطرف عنهم، بل ورفعوا بعض شعاراتهم فقالوا بإن التصويت بنعم واجب شرعي وعلقوا لافتات بذلك في الإسكندرية، وتكلمت مساجدهم بذلك، قبل أن يعودوا، ربما تحت رد الفعل الصاخب للنخب السياسية والثقافية المصدومة، للتنصل من هذا السلوك والتأكيد على اختلافهم عن السلفيين!. دخل الإخوان معركة التعديلات على هذا النحو لسببين. أولاً، للهرب، ولكن إلى الأمام، من استحقاقات ديموقراطية سيطرحها المجتمع على الجماعة ويعرفون أنها ستطال المنظومة الإخوانية فقرروا المبادرة بأن يكونوا هم من يسائل المجتمع حول هويته وشريعته ويتصدر قافلة المدافعين عن إسلامية هذه الهوية وحاكمية تلك الشريعة، وبدلاً من أن يكونوا موضوع مسائلة في استحقاقات دولة ما بعد الثورة صاروا بقفزة قادة الشعب في معركة الدين والشريعة. ولأنهم اختاروا، ثانياً، أن يحسموا مبكراً معركة السيطرة على الواقع و«يحتلوا» الفراغ السياسي في الشارع (الذي أصبح مزاجه سلفياً) حين بدا إن ثقة المصريين في صناديق الاقتراع قد عادت، صار لشعار الإسلام هو الحل مبرره طالما أصبحت المعركة معركة هوية، ومن غير المتوقع أن يتراجعوا عنه لمصلحة شعارات سياسية «جديدة». ثم كانت مرحلة التعديلات مناسبة لحسم المعركة على الشارع مبكراً وقد نجحوا فيها حين صاروا يبثون رسالة مفادها أن ال 77 بالمئة الذين صوتوا بنعم كانوا جمهوراً للإخوان أي نحو 14 مليون نسمة. بالانتقال إلى معركة الهوية صار الإخوان في قيادة المدافعين عن الشريعة والإسلام رغم أنهما غير مهددين، وأصبحوا يقودون المجتمع في معركة لم ينتدبهم لها، وهذا يمنحهم ميزة احتلال موقع القيادة فيبتعدون بذلك عن كرسي المسائلة والاعتراف. في معركة الهوية بدا أن الحلم الذي داعب كثيرين في القيادات الوسطى الإخوانية قد تحقق؛ عبر تحالف إخواني- سلفي ما كان مخططاً له في القمة فكان تحالف اللحظة؛ وهو تحالف سمحت به بنية مواتية من الفرص وسانده تحالف الأفكار. فمن ناحية اكتشف الإخوان أنهم أمام خزان سلفي يمثل رافداً قوياً للحياة السياسية؛ تيار قوي ومنتشر وليس له رافعة سياسية ولا خبرة، ومن ثم كان يجب تلقفه والاستثمار فيه وهذا ما يحدث الآن: فليس أفضل من معركة الهوية والإسلام والشريعة لإقناعهم أن ما يجمعهما أكبر وأهم بكثير مما يفرقهما فيتم تقديم الجماعة كرافعة سياسية مناسبة للسلفية، ويعزز من وجاهة الفكرة أن الإخوان يتجهون إلى ظاهرة من التسلف في سلوكهم وأفكارهم منذ سنوات في تأثر واضح بمحيطهم الاجتماعي وتراثهم التنظيمي المتشدد. لقد وجد الإخوان أنفسهم في نفس القارب مع السلفية في مصر ما بعد الثورة وإن اختلفت مبررات الإخوان الذين يريدون الهرب من أن تطالهم تحولات الديموقراطية أو تنتقل إلى بيتهم وهذه هي أهم عيوب الإخوان التي ستظهر للعلن؛ فالهروب من الديموقراطية لا يبعد تأثيرها فقط بل ينقل الهاربين منها إلى مواقع أبعد حتى تصير خصماً لهم أو يصيروا خصماً لها وهذا الأدق. إن التحالف الإخواني السلفي على مذبح الهوية سيؤثر على الإخوان ليبعدهم عن المسار الديموقراطي، وسيظهر ذلك سريعاً على برنامجهم السياسي الذي سيكون صعباً عليه رفع المادتين المثيرتين للجدل منه. ولن يستطيع الإخوان تعديل منعهم للمرأة والقبطي من الترشح للرئاسة طالما كانوا بصدد تحالف مع السلفية، وهو تحالف ربما يتمدد أيضاً ليشمل الجهاديين التائبين. كما سينعكس مباشرة أيضاً على التحالفات السياسية القديمة أو التي كانت في طور الإنجاز وأهمها محمد البرادعي. كان البرادعي من قبل، السياسي الأول صاحب المكانة الذي يمد يده للإخوان حين ابتعدت عنهم كل القوى الأخرى، كما كان أول من نقل صوتهم للغرب وأميركا بخاصة ودافع عنهم علانية وقال إنه لا يخشى منهم وأنه سيدافع عنهم، وزارهم في مقرهم، والتقطت له معهم صوراً أثارت غضب مجمل القوى الليبرالية واليسارية وقلق أوساط غربية، وكانت سبباً في حملة داخلية رسمية ضده طالت حتى عائلته وأسرار بيته!. وكان من المتوقع أن يكون لهذا التحالف صدى خصوصاً بعد سقوط النظام، لكن الأمر في ما يبدو سيتجه للاختلاف. فالتحالف مع السلفية سيترك آثاراً عميقة أولها تغيير قوي وربما جذري في مجمل تحالفاتهم؛ فطالما انحازوا للكتل المضمونة تصويتياً والتي يحتاجونها في الاستحقاقات الانتخابية القادمة بخاصة مع استمرار التخويف منهم، فإن علاقتهم بالبرادعي ستمضي إلى طريق مسدود وفي أسرع وقت. ينظر السلفيون إلى البرادعي كأسوأ ما يمكن أن تأتي به ثورة، ليس تأثراً بالحملة التي قادها النظام السابق ضد الحيثيات الشخصية للرجل فحسب، بل حتى في موقفهم من ليبراليته وموقفه من الحريات الدينية والاجتماعية. ومن ثم فلابد أن يأخذ الإخوان من الرجل مسافة تسمح بالاقتراب من السلفية. السبب الآخر والأهم هو طبيعة المشروع السياسي الذي يحمله البرادعي الذي يميل لأن يكون جذرياً، فهو أول معارض حقيقي أعلن أن النظام لا ينفع معه إصلاح وأن الحل في إزالته أو «كنسه» تماماً، وهو في مشروعه لما بعد النظام ليبرالي صريح، وبخاصة في ما يخص مبدأ المواطنة الكاملة التي لا تحتمل لبساً أو نقاشاً، ثم انه أعلن انه يريد تأسيس دولة على أسس جديدة جذرياً بما في ذلك رفض ترقيع الدستور. وهو يعتبر ذلك استكمالاً لمسار الثورة ما يجعله خصماً للكثيرين بدءاً من ما تبقى من النظام السابق وصولاً إلى بعض قوى المعارضة ومن ضمنهم الإخوان. شارك الإخوان في الثورة بوجل وتردد، وحتى عندما اندمجوا فيها كاملاً كانوا يشاركون فيها بعقلية غير ثورية. الثورة عند الإخوان هي إسقاط لنظام قمعي كان يقمعهم ويمنعهم من العمل لذلك انتهى الأمر لديهم بمجرد سقوط مبارك فعادوا إلى طريقتهم القديمة في العمل وفي الخطاب والتحالفات.