ظلت الحركة السلفية في مصر عضواً فاعلاً في الوسط الإسلامي على مر العقود. قوبلت بتضييقات، كما بقية الجماعات الإسلامية، وفي أحيان أخرى أطلق لها العنان ضمن «لعبة التوازنات» التي طالما اعتمد عليها النظام السابق في إطار سياسة «فرق تسد» التي أجادها. في السنوات الأخيرة نما التيار السلفي في شكل ملحوظ وتعددت المجموعات السلفية غير أن أكبرها على الإطلاق ظل «الدعوة السلفية» التي اتخذت من محافظة الإسكندرية الساحلية (شمال مصر) مركزاً لها، ما جعل بعض الخبراء يعتقدون أن السلطات سمحت بمساحة من الحرية للدعوة السلفية في محاولة للجم جماعة «الإخوان المسلمين». للتيار السلفي مساجده المعروفة في غالبية مدن وقرى مصر وله أيضاً قياداته المركزية والقطرية. وفي الآونة الأخيرة سمح لشيوخه بعقد الندوات والدروس الدينية في هذه المساجد «لكن تحت أعين ومراقبة الأمن». حافظ التيار السلفي على «خصامه مع السياسة»، وانشغل فقط بالدعوة إلى الإسلام ورفع شعار عدم جواز الخروج على ولي الأمر، ما عزز من فرصه في الانتشار برضا السلطة. ولم يدع التيار السلفي أنصاره إلى المشاركة في «ثورة 25 يناير» وظهر فقط بعد أن تأكد نجاحها ما كان مثار انتقاد شديد من قبل شباب فيه. ومثل غالبية التيارات السياسية والدينية في مصر استفاد السلفيون من الثورة في حرية التنقل والتجمع وعقد المؤتمرات والندوات، لكن «ثورة 25 يناير» سببت أيضاً تفاعلات كبيرة داخل التيار السلفي، وخرجت أصوات لتنتقد عدم مشاركته في السياسة والاقتداء بجماعة «الإخوان المسلمين» التي حصدت «مكاسب جمة» بعد الثورة. وإزاء تصاعد الاعتراضات على طريقة إدارة الحركة السلفية اتخذ قرار بإعادة هيكلتها، تم بموجبه تشكيل مجلس موقت لإدارة الحركة، حتى يتم اختيار رئيس لها. الدعوة السلفية وثورة الشباب يقول القيادي في الحركة الشيخ محمد إسماعيل المقدم إن ثورة الشباب «حدث تاريخي نادر ربما تكون له آثار أعظم مما أدت إليه الثورة الفرنسية». وأكد أن الثورة العظيمة الآثار انعكست على واقع الدعوة السلفية التي وجدت نفسها بين عشية وضحاها أمام واقع جديد «كأن مولوداً يولد» ونحتاج الآن إلى ترتيب الأولويات. وبخصوص اعتراضات الشباب على موقف السلفيين في بداية الثورة يرى المقدم أن «التقديس انحراف عن منهج الدعوة السلفية، والانفعال أيضا مرفوض، فالثورة يجب أن تحدث تغييراً إيجابياً وتصلح ولا تفسد»، مشيراً إلى أن «اختلاف الرؤى يؤدي إلى اختلاف الأولويات في هذه المرحلة، فالبعض يريد أن ينشغل بالبكاء على اللبن المسكوب وينظر إلى الماضي ويريد كشف حساب والنظر إلى سلبيات السنوات الأخيرة (لكن) النقد يدخل فيه الإيجابيات أيضاً». وأضاف: «الدعوة في هذه الظروف الطارئة لا تبدأ من الصفر، فهناك تراث ضخم على رغم صعوبة الأجواء التي تعمل فيها. لا نريد الاشتغال بلعن الظلام، فكل الناس تتحدث عن مساوئ النظام السابق والقهر الذي تعرضت له، وليست أولويتنا لعن الظلام ولكن إضاءة شمعة في هذا الظلام لأن مصر يتربص بها أعداء من الداخل والخارج». ويعزو الداعية السلفي جمال البرهامي عدم مشاركة أو دعوة السلفيين إلى المشاركة في الثورة إلى «الرغبة في تأمين فرص النجاح لها». وقال: «لو كنا شاركنا لكان النظام استغل ذلك الأمر للبطش بالمتظاهرين ولكان استخدمنا كفزاعة لتخويف الغرب من الثورة، ولذا فضلنا مراقبة الأمر وكنا على يقين بنجاح الشباب ولذا تركنا لهم الفرصة»، مضيفاً أن هذا الأمر لا يمنع أن منا من تظاهر وشارك في الثورة بقرار فردي، مشيراً إلى أن «أهل الدعوة» كانوا من أكثر المضطهدين من قبل النظام السابق ووجهوا بتضيقات كثيرة أقلها سلبهم الحق في حرية التنقل والسفر. جدل المشاركة السياسية وسط الزخم الذي أحدثته ثورة الشباب تفجر الجدل داخل الدعوة السلفية حول شرعية المشاركة السياسية. ولا يخفي الشيخ ياسر البرهامي أن الدعوة السلفية منقسمة بخصوص هذا الأمر، مشيراً إلى أن هناك من يسأل: إلى متى ستظل الدعوة سلبية؟. وقال: «الدعوة لم تكن سلبية في يوم من الأيام لكن المشاركة قبل الثورة كان ثمنها غالياً جداً (يريدون) شعارات وأقوالاً باطلة تؤدي إلى تنازل عن ثوابت عقيدية». ويوضح أن «عدم المشاركة السياسية ليس من ثوابت السلفيين» لكن «التغيير من خلال الحل البرلماني ليس الطريق الذي نرتضيه، فالتغيير الحقيقي يبدأ من إقامة الشخصية الإسلامية التي تسعى إلى إنفاذ أنظمة الإسلام»، مضيفاً: «كان مطلوباً في المرحلة الماضية رفع شعارات علمانية (...) هل قبل (مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن) البنا بالدولة المدنية حتى لو قالوا ذات مرجعية دينية، ومع ذلك تحت ضغط الغرب والعلمانيين والتأكيد على مدنية الدولة قرر الإخوان القبول بمبدأ الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية، وهذا تناقض شديد، ليس ذماً في الإخوان ولكن للتبين». وقال: «التنازل يعني القبول بدولة مدنية أي ليس لها علاقة بالدين، هم يقولون نقصد أنها دولة ليست عسكرية أو قائمة على القانون، لكن نقول الدولة مدنية، والعلمانية تعني أنها دولة لا علاقة لها بالدين، وهذا ما لا نرتضيه ويمس ثوابتنا، وبالتالي كل الاتجاهات الإسلامية التي شاركت قبل ذلك كانت مضطرة، ونرى أن الثمن المدفوع كان غالياً جداً، حصلت تفاعلات وتحالفات (للإخوان) مع «الوفد» تحت شعار الهلال والصليب، واشترك في القوائم النسبية نصارى، ونعلم أن إخواننا في الإخوان المسلمين لا يرون صحة هذه الأمور لكنها توازنات إقليمية ودولية وأيضاً داخلية». وتساءل: «هل هذا الثمن يساوى بضعة مقاعد في برلمان عقيم (...) أوقات وأموال وأرواح وشباب يسجن من أجل بضعة مقاعد لا أثر لها ولا تستطيع أن تفعل شيئاً، بعد كل هذه الأثمان يأخذون مقعدين أو ثلاثة أو حتى 80 بلا أثر أو نتيجة، فكل القوانين المخالفة للشريعة أقرت على رغم وجود اتجاه إسلامي في البرلمان، فالمشاركة السياسية في الأوضاع السابقة كان محكوماً عليها بالفشل سلفاً، كل هذا جعلنا نقول إننا لا نشارك من أجل وجود مفاسد». وأشار إلى أن الوضع الآن تغير جزئياً وبالتالي نطرح المسألة للنقاش «وننظر في وجود الضوابط الشرعية وإن وجدت لا نمانع من المشاركة»، موضحاً أن هذه الضوابط تتمثل في عدم تقديم تنازلات ولا الإجبار على تحالفات وعدم غش الأمة. الحركة السلفية استنفرت بقوة دعماً للتعديلات الدستورية التي أقرت بعد استفتاء عام وشهدت جدلاً كبيراً قسم الشارع السياسي إلى إسلاميين يدعمونها وأحزاب مدنية وقوى شبابية ترفضها. وترى الدعوة السلفية أن هذا التأييد له مبرراته الشرعية لأن هدفه الأساسي الحفاظ على هوية الدولة الإسلامية. وقال المتحدث باسم الدعوة السلفية الشيخ عبدالمنعم الشحات أيدت التعديلات كي تضمن تثبيت المادة التي تقول بأن الإسلام هو دين الدولة الرسمي وأن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع وأن الدستور السابق أكثر محافظة على الهوية مما يرتب له العلمانيون والليبراليون ولسرعة إنجاز مهام الفترة الانتقالية ليتفرغ الجيش لحماية الحدود. وأضاف أن الليبراليين والعلمانيين يدعون أنهم مع الديموقراطية والحرية وإرادة الشعب وأنهم ضد الحكم العسكري إلى درجة أنهم يستنكفون أن يكون وزير الدفاع نفسه عسكرياً ويطالبون بأن يكون مدنياً والآن يطلبون صراحة بقاء الجيش في السلطة لمدة أطول على رغم رفض الجيش وتلك «مفارقة كوميدية» هم دعوا إلى رفض التعديلات بسبب إحباطهم من عدم مساسها بالمادة الثانية من الدستور التي تنص على أن دين الدولة هو الإسلام، وأن لغتها هي اللغة العربية، وأن مبادئ الشريعة إسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، مضيفاً أنه «على رغم أن التعديلات الحالية تنص على عمل دستور جديد بعد استكمال مؤسسات الدولة المنتخبة إلا أنها أوكلت اختيار اللجنة التأسيسية إلى مجلس الشعب الذي مِن المتوقع أن يكون تمثيل الإسلاميين فيه في غاية القوة، ومن ثم فهم يريدون لجنة تأسيسية تختار بسياسة الصوت العالي، ومن يملك الحضور أكثر في وسائل الإعلام». وتساءل: «لماذا يقصى الإسلاميون طالما أن الأمة سوف تختارهم في انتخابات نزيهة؟ أما الشيخ محمد إسماعيل المقدم فيقول إنه «شيء مزعج جداً أن يظل الجيش لحماية البلاد داخلياً، فهو غير مؤهل للتعامل مع البلطجية والقتلة، ومهمته الأقدس هي حماية البلاد من العدوان الخارجي، فمن مصلحتنا أن يحدث نوع من الاستقرار»، مضيفاً أن «الجيش يتصل بالسلفيين ويطلب أن يساعدوه في كثير من المهام بما في ذلك إدارة أقسام الشرطة لأن الناس ستشعر بالأمان حين يوجد الملتحون بجوار الشرطة». وكانت حادثة هدم كنيسة قرية صول في محافظة حلوان مثالاً جلياً على الدور الذي عهدت به القوات المسلحة للسلفيين للسيطرة على الأمر. فبعد أن أقدم مسلمو القرية على الاعتداء على الكنيسة على خلفية حديث عن علاقة بين امرأة مسلمة وشاب مسيحي باتت القرية قبلة لشيوخ الحركة السلفية من أجل تهدئة الأوضاع فيها. وترك الأمر في عهدتهم حتى استطاعوا السيطرة على الخلافات داخلها ولم يبدأ الجيش في بناء الكنيسة إلا بعد أن استطاع رجال الدين إقناع المسلمين من أهالي القرية بأن في هدم الكنيسة إساءة إلى الإسلام، ما يشير إلى دور متنام للسلفيين في مصر بعد «ثورة 25 يناير».