الأيام علمتني أن أصمت، نعم أصمت، فما أجمل الصمت، لا أحد يعرف هل تترفع عن الشيء، أو تطلبه؟ هل أنت راض أم ساخط؟ موافق أم رافض؟ مسالم أم تضمر أمراً. الصمت كم أعطاني، وكم أخذ مني؟ كنت أريد أن أكون عفيّاً كجبل، صريحاً وواضحاً كالصحراء، طيب القلب كقطعة الطين اللدنة التي ينبت منها الزرع الأخضر، مهاباً كسماء واسعة كاسية الأرض، ولكن كيف ونحن محكوم علينا أن نرث آباءنا، وأن يرث آباؤنا آباءهم، ولم يتعلم الأجداد غير حني الظهر، والتنهد، وانتظار الفرج، العمل في صمت كدود الأرض، من دون مطالبة أبداً بالمكافأة، كيف تتمنى شيئاً لا تستطيع جيناتك تحقيقه؟ والجبل؟ الجبل صخر، ويريد الصخر، قالوا مالك والجبل؟ اذهب إلى الموالد يا ربيب الموالد. وسحبتني الموالد، فإذا بها أقسى من الجبل وأشد، لا زمر ولا طبل. وماذا يفعل غليظ الصوت في الموالد؟ من أول الترديد وراء المنشد، إلى لعبة «النيشان»، ودفع «الطارة»، للثلاث ورقات. يااااه... أيام. وسحبتني الموالد. وأهل الجبل؟ أهل الجبل، أكلهم الجبل وأهل الموالد أكلتهم الموالد. والعشق؟ العشق ضنين، فاتنا وهَجَّ، لو عاد الآن لاحتاج إلى قلب ونسان، وقلبي مثل الشوك. - والموت؟ وهل عشنا حتى نموت، سأجري منه. ستهرب؟ سأجري، بيني وبين الصحراء عمار، وستدلني على الطريق. وانطلقت قدماي تجريان في كل اتجاه، بلا هوادة ولم أعد أسأل، فقط جري طويل منتظم بلا توقف وامتدت الصحراء أمامي بلا نهاية. قالتْ: - هل تضمن لي الغد؟ لا أريد بيتاً من حرير، كل ما أرجوه، بيت آمن، عندما فشل أبي في تحقيق هذا الحلم لأمي، هرب. تحكي أمي أنه كان شاباً متبختراً، مُعجباً بجسده المفتول ووسامته، وكانت هي مثالاً للجمال، وجاء القوي بماله وسلطانه القاهر، وكان ما كان، وهرب أبي، ثم داست أمي السنابكُ، وأصبح لي ألف عم، كلهم يمسح على شعري، ويعطيني الحلوى، هل سمعت؟ لا أريد لأولادي أن يأكلوا هذه الحلوى المُرّة. قلتُ: وأحاط بي الجنود، وجاء القوي، فهربت. هربت من قرية إلى مدينة إلى صحراء، إلى جبل، ماذا يعني الغضب المكتوم في العيون المنكسرة، منذ أن عجز قلبي، وانفرط العقد مني، صارت الحياة كالجيفة، أهرب منها وأنفر، ولا أمل. ونظرتُ إلى السماء. مرَّت سحب مثقلة، وانهمرت الأمطار. يأخذه القارب ويسرح به في نيل طويل ممتد من السماء، زهور ميتة على الجانبيْن. كيف تموت الزهور، وهي تنمو على شاطئ النيل؟ لم يسأل نفسه هذا السؤال، وإن كان قد فعل، ومدَّ يده وأخذ حفنة من الماء، لعَرَفَ أنها مالحة، شديدة الملوحة. أشجار وعصافير وبشر، ولا صوت؟ هو لم يحاول أن يسترق السمع، حتى يصل إلى كوخه، يفرحُ عندما يرسو القارب أمامه، صحيح أنه من الخوص، ولكنه يحميه من أفكاره، يدخل ويغلق الباب عليه، يأكل كسرة خبز، ويشرب ماءً لم يعد له طعم، ويتحاشى السؤال عن الحياة من حوله، لا يحاول النظر من الكوّة المفتوحة في الجدار، ولو فعل لرأى عمارات شاهقة وسمع صوت العربات الفارهة، وضحكات الرجال الحُمر الوجوه. لو فعل لانكسر القارب وانقطعت الأحلام.