ظلّ لسان الحكاية الفلسطينية، وعقوداً طويلة، عربياً بامتياز. يحكي ويروي ويقصّ لجمهور ينطق بلغة الضاد. لكنّ مسرح الحوادث الذي كان محصوراً في البدء في فلسطين، أصبح بعد نحو سبعين سنة على النكبة يشمل العالم بأسره. وبدأت أجيال فلسطينية- ولدت أو شبّت في الشتات- تعبّر عن حكاياتها بألسنتها التي تنطق بها. صرنا نقرأ السردية الفلسطينية مثلاً بلسان إنكليزي قويم. سوزان أبو الهوى، سلمى الدباغ وليلاس طه هنّ جيل أسدى الى تلك السردية خدمة جليلة عبر تقديمها الى القارئ الإنكليزي بلغته، بعيداً من علل الترجمة وباستخدام المضامين أو الرموز الثقافية والأدبية الإنكليزية التي تجعل من الحكاية الأجنبية قريبة من نفوس الناطقين بتلك اللغة. كما أن جهود هؤلاء تساهم في كسر احتكار الحكاية الصهيونية، التي عبرت عن نفسها منذ البدء بألسنة الغرب، لمخيلة قراء تلك اللغات. علاوة على ذلك، فإن إنتاج هؤلاء الكتّاب يثري الحكاية الفلسطينية بتأملات وزوايا نظر جديدة نشأت وتلاقحت ضمن فضاءات فكرية وثقافية متنوعة، كما أنه يسلط الضوء على فصل مهم من فصولها يخصّ مصائر أبنائها ممن ولدوا وترعرعوا في الشتات الغربيّ تحديداً. فوق أحفورة وجه الحاجة نظمية، تغزل أبو الهوى خيوط حكايتها ببراعة العنكبوت. تصطاد القارئ الذي يقع فريسة سرد محبوك بإتقان وتلعب معه لعبتها. تحدد له نقطتين عشوائيتين فوق رقعة يمتد وجهها بين صبا نظمية في قرية بيت دراس قبل سقوط فلسطين عام 1948 وإلى مشيبها في غزة المعاصرة. إن نجح القارئ/ الفريسة مثلاً في اقتفاء الخط الممتد من أذن الحاجة اليسرى وتتبعه في تقوّسه إلى حاجبها وهبط منه في الأخدود العميق الذي يقطع جبينها ثم ينحني ليعانق ثلاث هالات رقيقة تدمغ زاوية عين نظمية اليمنى كخبطة قدم الغراب، فإنه يخرج حراً طليقاً ويفوز بغنيمة المعرفة. وإن فشل فسيظل عالقاً في لجة بلا قرار وينتهي به المطاف في «الأزرق بين السماء والماء». شاهد حاضر غائب خالد الصغير كثيراً ما لعب تلك اللعبة الأثيرة مع جدته نظمية. لكنه، وعلى رغم براعته، انتهى به المطاف معلقاً في الزمن داخل ذلك «الأزرق». ما كان لتلك الضحية البريئة احتمال الأهوال التي واجهتها أربعة أجيال من عائلة آل بركة ممن نقشت حكايتهم في لوح محفوظ فوق وجه نظمية. بعد فرض إسرائيل حصارها على غزة وتدميرها القطاع بقصف جوي مرعب في عام 2006، يتقوقع خالد داخل نفسه وينسرب بعيداً داخل «الأزرق»، تحيله الصدمة قعيد كرسي متحرك لا يتكلم ولا يتحرك من دون معاناة من أي مرض عضويّ. تحوله أبو الهوى إلى شاهد حاضر غائب على كل فصول الحكاية. وهو يروي لنا الحكاية حتى قبل ميلاده، يقول خالد: «كنت موجوداً قبل أن أولد»، يلعب مع أخت جدته الصغيرة مريم عند نهر سكرير الذي يقطع قرية بيت دراس قرب غزة قبل سقوطها بيد الإسرائيليين. وتطلق مريم عليه اسم خالد، صديقها المتخيل، وتتعلم منه القراءة والكتابة ونظم الأغنيات. تلجأ أبو الهوى إلى الواقعية السحرية لتعبر بنا داخل عقول شخصياتها التي تتعرض لصدمات نفسية عنيفة وتستطلع معنا فلسفتهم لواقعهم الصادم على نحو يمكنهم من الصمود والتماس القوة. يذهب خالد إلى «الأزرق» ويتنقل عبر الزمن بين ماضي بيت دراس وحاضر غزة. ولكن لا بد من الإشارة هنا سريعاً إلى أن شخصية خالد، البالغ عشر سنوات، يكتنفها أحياناً قدر من اللاوقعية. فالصبي يتحدث أحياناً بفلسفة عميقة وقدرات تحليلية تفوق سنوات عمره المعدودة. أما نظمية الشابة فتتعرض خلال سقوط قريتها للاغتصاب الجماعي على يد الجنود الإسرائيليين الذين يقتلون أختها الصغيرة مريم أمام ناظريها، لكنها ترى مريم وهي تنهض من بركة دمائها وتأمرها بالرحيل وإنجاب طفلة وتسميتها بألوان. نظمية المغتصبة جماعياً والمصدومة حتى النخاع تطيع أختها وترحل إلى غزة بعدما يتركها الجنود ولكنها تظلّ طيلة حياتها تبصر مريم وتسمعها وتكلمها كما لو كانت حية ترزق. ولعلّ الرؤية التي عالجت بها أبو الهوى اغتصاب نظمية الجماعيّ تسدد ضربة قاضية لفتوى الونشريسي في تاريخنا العربيّ. تلك الفتوى سيئة الصيت التي قضت بمعادلة العرض قبل الأرض، والتي كانت سبباً في هروب مئات الآلاف من الأندلسيين من أرضهم وتركها للغزاة. ضاعت الأندلس يومذاك ثم تكررت المأساة في فلسطين، عندما عمدت العصابات الصهيونية إلى القتل والاغتصاب ففرّ كثيرون من الفلسطينيين خوفاً على ضياع العرض فأضاعوا الأرض. نظميةُ سوزان أبو الهوى المغتصبة والتي يعرف الجميع بأمر اغتصابها كانت مخطوبة. لكنّ خطيبها، عطية، لم يلفظها أو يتنكر لها، بل حباها بكل الحب وتزوجها. وعند ولادة نظمية ابنها البكر، مازن، رأت في وجهه صورة مغتصبها. عيونه زرقاء رمادية وبشرته بيضاء، هي ملامح الجندي الإسرائيلي الذي ولغ في اغتصابها. رفضت نظمية حمل الصبي وإرضاعه. لكنّ زوجها احتضن الوليد البريء وهددها برمي يمين الطلاق عليها إن لم ترضعه. ترضع نظمية الصبي فتتداركها الأمومة وتتقبل ابنها. وعندما يكبر مازن ويحاول بعضهم رميه بالشتيمة المعهودة، ابن حرام لجندي إسرائيلي، تنتفض نظمية الجبارة وزوجها ويرغمان من تفوهوا بذلك على دفع الثمن. يشبّ مازن ويصبح فدائياً بطلاً تلاحقه إسرائيل وتعتقله فتهتف غزة كلها باسمه فخراً وإكباراً. رموز الشتات وفي ما يخصّ أبناء الشتات الفلسطيني، تقدم أبو الهوى نموذجين مهمين في روايتها. محمد الذي يولد في الكويت ثم يشبّ ويترعرع في الولاياتالمتحدة بعد هجرة والديه، ممدوح وياسمين، إلى هناك. وعلى رغم أنه شخصية ثانوية في الرواية، هو يمثل بعض أبناء الفلسطينيين الذين يعانون أزمة في الهوية. محمد يكره غزة عندما يأخذه والداه إلى زيارتها، وهو يرفض الحديث بالعربية، ويكره اسمه ويغيره إلى آخر انكليزي ثم يتزوج بفتاة من أصول إسبانية تمقت كل ما هو عربي. أما النموذج الآخر فهو نور ابنة محمد التي يناضل جدها، ممدوح، لأجل الحصول على حق حضانتها بعد وفاة محمد وهي ما زالت طفلة صغيرة. خلال السنوات القليلة التي تجمع نور بجدها، تعيش الحفيدة أجمل أيام حياتها وتتعلم العربية وتعشق قصص جدها عن فلسطين. ولكن بعد وفاته تضيع نور في دهاليز مؤسسة رعاية الأيتام الأميركية وتعاني هناك صنوفاً من العذاب والقهر. بعدما تكبر وتتخرج في الجامعة كمتخصصة في علم النفس، تعود نور إلى فلسطين لمساعدة أطفال غزة. وهناك تتعرف الى عائلتها وتقرر البقاء في الأرض التي غرس جدها محبتها في قلبها. نور- وخلافاً لوالدها- تشعر في غزة باسترداد بعضها الضائع منها منذ أمد بعيد. إنها في ذلك القطاع المحتل، المحاصر والمغلق، تحسّ بالاكتمال بعد طول خواء في أميركا على رغم كل ما وفرته لها من امتيازات وإمكانات. وقد يتساءل القارئ عن مدى واقعية ذلك، لكنّ مسائل الهوية والانتماء تظل أمراً غامضاً مرهوناً بمجال الشعور داخل النفس البشرية. السرديّة الفلسطينة تزخر بصنوف شتى من الأهوال والعذابات، وحكاية أبو الهوى ما هي إلا حكاية منها. وعلى رغم بشاعات حرق بيت دراس وقتل أهلها واللجوء إلى غزة والاغتصاب والاعتقال والحصار والتشرد، وسوداوية مناخ الرواية، تنجح أبو الهوى باقتدار في إضحاك القارئ من الأعماق. وهي لا تفعل شيئاً بهذا الصدد أكثر من اختيار شخصياتها ببراعة وتركها تتكلم على سجيتها دونما تنميق أو تزويق. إن نظمية هي المعنية بهذا في المقام الأول، فهي بفطنتها وجرأتها وقلبها الكبير تتميز بلسان سليط لا طاقة لأحد على مواجهته. وهي تتحفنا بتعليقات لمّاحة، ظريفة، لاذعة وأحياناً بذيئة جداً. بيد أن اللغة البذيئة التي تتوافر الرواية على قدر منها تكسر مرارة الحكاية واسودادها وترطبها بفكاهات الحياة اليومية ومناكفاتها. والبذاءة شأنها شأن أي شيء آخر في السرد لا يحدد معناها ومغزاها إلا السياق. وعندما يكون السياق أبعد ما يكون من إثارة الغرائز وتهييجها، فإن البذاءة تصبح أداة سرديّة لا تتجاوز مهمتها حدود التشخيص الصادق والأمين شاهدلشخصية نظمية كما هي في الواقع. ومن هنا لا بد من أن يسجل لأبو الهوى أنها في هذه الرواية حفظت لنا جميعاً سنديانتنا الأصيلة الحاجة نظمية، جدتنا الفلسطينية، ستي وستك، صاحبة اللسان السليط والبذيء. صاحبة الهيبة والسطوة والظُرف التي تشد أوتار حنجرتها وتطلق سهام كلماتها النابية لتصيب كبد الحقيقة بلا لف ولا دوران. «ستنا» الفلسطينية تلك تخلدها لنا هذه الرواية، وكلما استبدّ بنا الحنين والشوق إليها، يكفي أن نغمس أنفسنا بين دفتي هذا الكتاب لنعود أطفالاً في حضرتها، «نتعربش» بأطراف ثوبها المطرز، فتمدّ يدها في «عِبّها» وترمي لنا بحكايا «الحامظ والحلو»، نتمسح بأعطافها وننتشي بعبير الزيت والزيتون والزعتر.