عوامل كثيرة دعت رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في نهاية أيلول (سبتمبر) الماضي إلى حل البرلمان، والدعوة إلى انتخابات مبكرة. وعلى رغم ارتكان الكثير من التحليلات إلى رغبة آبي في الحصول على تفويض شعبي بتبني سياسة أكثر حزماً تجاه كوريا الشمالية، استناداً إلى المساحة المهمة التي حظي بها تهديد بوينغيانغ؛ خلال حملته الانتخابية. لكن قراءة دقيقة لعدد من التطورات المهمة داخلياً، تشير إلى الأهمية النسبية الأكبر للتحولات الحزبية في اتخاذ قرار إجراء الانتخابات المبكرة. ويشار هنا إلى إعلان يوريكو كويكي،عمدة طوكيو، تأسيس حزب «الأمل»، في خطوة شكَّلت خطراً بالنسبة إلى فرص استمرار سيطرة الحزب الحاكم على السلطة، لتوقع سعي حزب كويكي الجديد إلى انتزاع مساحة من القاعدة الاجتماعية للحزب الليبرالي الديموقراطي الذي يعتبر ننفسه الممثل الرئيسي لتيار اليمين والمعبر الأساسي عن مصالح قاعدته الاجتماعية، فضلاً عن التشابه النسبي بين الحزبين في ما يتعلق بقضايا أخرى مثل تعديل الدستور، والسياسة الأمنية. وتأكدت جدية هذا التهديد بعد النجاح الذي حققته كويكي، وحزبها المحلي «أبناء طوكيو أولاً»، في مواجهة الحزب الليبرالي الديموقراطي في الانتخابات البلدية في مدينة طوكيو، في تموز (يوليو) الماضي. وكان متوقعاً نجاح كويكي في الاقتطاع من القاعدة الاجتماعية للحزب الليبرالي الديموقراطي بالنظر إلى موقفها المعارض للتوسع في سياسة فرض الضرائب، فهي تميل إلى خفض معدلات الضرائب، الأمر الذي كان يعني إمكان تحقيق درجة كبيرة من الشعبية. وكان من شأن انطلاق تيار كويكي من المواقف السياسية ذاتها تقريباً لتيار آبي، ورفضها التوسع في معدلات الضرائب، أن يمثلا المعادلة الأمثل بالنسبة إلى الناخب الياباني بعامة، وتيار اليمين خصوصاً، على نحو كان من شأنه تكبيد التحالف الحاكم خسارة تاريخية. وعلى رغم ذلك؛ نجح آبي في تخطي هذا الاختبار الصعب، وساعده في ذلك عاملان رئيسان. الأول، يتعلق بضعف أحزاب المعارضة؛ فعلى رغم الزخم السياسي الذي ارتبط بتأسيس حزب «الأمل»، فإنه لم يصل بعد إلى مرحلة أن يصبح البديل السياسي للحزب الحاكم، لحداثته، ولعدم تقديمه برنامجاً سياسياً مختلفاً. فباستثناء موقف كويكي من الضرائب، هناك درجة كبيرة من التشابه في مواقفها مع الحزب الليبرالي الديموقراطي. ويضاف إلى ذلك إعلان كويكي عدم ترشحها في الانتخابات البرلمانية، الأمر الذي أفقدها الكثير من الزخم وتسبب في تراجعها كبديل سياسي حقيقي لشينزو آبي، في ظل نص الدستور على أن يكون رئيس الوزراء عضواً في البرلمان. ولم يقتصر التأثير السلبي لهذه الخطوة في كويكي نفسها، ولكن امتد إلى حزبها بالنظر إلى محورية دورها في تأسيسه. وشمل التراجع أيضاً الحزب الديموقراطي (يسار الوسط)، أكبر أحزاب المعارضة، نتيجة انشقاقات أدت إلى انتقال عدد كبير من أعضائه إلى حزب «الأمل»، وتأسيس «الحزب الديموقراطي الدستوري الياباني» بقيادة يوكيو إيدانو. العامل الثاني يتعلق بأهمية التهديد الكوري الشمالي ونجاح آبي في توظيفه خلال الحملة الانتخابية. وكان لافتاً أن التهديد صار موضوع اليوم الأخير لحملة آبي الانتخابية. وعلى رغم استخدام بقية القوى السياسية المسألة الكورية في الانتخابات، لكن ما ميَّز موقف آبي هو حذره الشديد في التصعيد ضد بيونغيانغ. فعلى رغم تعرّض الأمن القومي الياباني للتهديد بفعل التجارب الصاروخية الكورية التي اخترق بعضها الأجواء اليابانية، فإن آبي نجح في ضبط النفس والتنسيق عسكرياً وديبلوماسياً مع واشنطن، لتجاوز تلك الأزمة. وكان من شأن هذه السياسة طمأنة الناخب الياباني في شأن سيناريو الحرب في منطقة شمال شرقي آسيا. فعلى رغم خطورة التهديد الكوري، لعبت الخبرة التاريخية للشعب الياباني مع السلاح النووي خلال الحرب العالمية الثانية، دوراً مهماً في انحياز الناخب الياباني إلى تيار آبي وخطابه القومي الذي أكد ضرورة تبني سياسة أكثر حزماً مع كوريا الشمالية لكنه لم يصل إلى الحديث عن الحرب أو استخدام القوة العسكرية. يتشابه خطاب آبي في هذا المجال مع خطاب المعارضة، إلا أن وجود خبرة سابقة لدى تياره السياسي في هذا المجال، دفع الناخب إلى عدم الانحياز إلى بدائل غير مأمونة. وهكذا، فإن لحالة المعارضة والبدائل السياسية المحتملة، والتوقيت المناسب لإجراء الانتخابات، الدور الأبرز في نجاح الحزب الليبرالي الديموقراطي، الذي يحمل دلالات مهمة بالنسبة إلى النظام الحزبي الياباني، أبرزها تكريس استمرار ظاهرة الحزب المسيطر، التي استقرّت بقيادة هذا الحزب الليبرالي منذ منتصف خمسينات القرن الماضي، باستثناء فترات محدودة جداً. وعلى رغم نجاح الحزب الديموقراطي في تحقيق تقدم في انتخابات عام 2009، إلا أن الحزب الليبرالي الديموقراطي سرعان ما عاد إلى السيطرة على السلطة مرة أخرى. ويمكن القول إنه ليس من المتوقع انتهاء هذه الظاهرة في المدى القريب، على خلفية واقع الحزب الديموقراطي المعارض. وحتى مع نجاح كويكي في بناء تيار سياسي قوي، فإن تحوّلها إلى بديل حقيقي للحزب الليبرالي الديموقراطي يحتاج إلى وقت طويل، كما يظلّ مرهوناً بشروط أخرى، تتعلق بالعلاقة بين الحزب الليبرالي الديموقراطي وكل من البيروقراطية وقطاع الأعمال. أما في ما يتعلق بالتحوّلات المحتملة داخلياً أو خارجياً، فليس من المتوقع حدوث تغيّرات في ملفات السياسة الخارجية، سواء في ما يتعلّق بالتحالف الياباني- الأميركي، أو بالتهديد الكوري الشمالي، أو في ملفات السياسة الداخلية، سواء ملف تعديل الدستور، أو ملف الإصلاح الاقتصادي، ليس فقط بالنظر إلى ما يمكن وصفه بعدم حدوث «انقطاع حزبي»، نتيجة استمرار هيمنة الحزب الحاكم، ولكن أيضاً بالنظر إلى عدم ارتباط الانتخابات بوجود أزمة سياسية حادة في البلاد، بمقدار ما ارتبطت بسعي آبي إلى تأكيد شعبية حزبه في مواجهة الأحزاب الأخرى، القديمة والناشئة. فضلاً عن ارتباط معظم هذه الملفّات بمتغيّرات أخرى، يتعلّق معظمها بالعلاقة مع الولاياتالمتحدة والبيئة الإقليمية. * كاتب مصري.