منذ أسابيع، وكلمة «التغيير» هي الأكثر تداولاً في اليمن، ويجمع اليمنيون عليها، بمن فيهم الرئيس علي عبدالله صالح ومؤيديه، وتحولت الكلمة، إلى هدف يسعى الجميع إلى تحقيقه من خلال النقل السلمي والآمن للسلطة في البلاد، وإن كان الرئيس وما تبقى من أركان سلطته وأنصاره يختلفون مع معارضيهم في التوقيت والأسلوب. ومنذ نجاح الثورة التونسية التي أطاحت الرئيس زين العابدين بن علي، والثورة المصرية التي أسقطت نظام الرئيس حسني مبارك، والنقاشات لا تنقطع في مختلف الأوساط السياسية والاجتماعية حول التغيير الذي يطمح إليه الشباب المعتصمون في أغلب المدن اليمنية للمطالبة بإسقاط النظام، ورحيل الرئيس علي صالح عن الحكم، بعد 33 عاماً من تربعه على كرسي الرئاسة. وما بين مطالب المحتجين بالرحيل والتسليم الفوري للسلطة، ورفض الرئيس الذي يتمسك بمنصبه حتى نهاية فترته الرئاسية أواخر عام 2013، ثم قبوله بتسليم السلطة نهاية العام الجاري 2011، طرحت الكثير من المبادرات، وشكلت لجان للوساطة وتقريب المسافة بين مطالب المحتجين ورغبة الرئيس، غير أن كل الجهود باءت بالفشل، لأنها بحسب مراقبين لم تتجه نحو السبب الحقيقي للهوة بين طرفي الأزمة والتي تزداد خطورة مع مرور الأيام. يعتقد المراقبون أن التغيير أصبح أمراً يصعب التراجع عنه، وأن إصرار الرئيس اليمني على البقاء في الحكم لبضعة أشهر، لم يعد مفيداً أو مغرياً له، خصوصاً مع تفاقم الأزمة، وما ترتب عن ذلك من انشقاق في صفوف الجيش اليمني، قد يقود إلى مواجهة غير محمودة على جميع الأطراف، ويرون أن تمسك صالح بمنصبه، يمثل حماية له في هذه الظروف، وفي ذات الوقت يعكس رغبته في تأمين نفسه وأفراد أسرته ومقربيه، من أي مخاطر قد تحملها لهم الأيام والسنون التالية لتخليه عن السلطة. وتؤكد مصادر سياسية يمنية أن الرئيس صالح توصل اخيراً إلى قناعة بأهمية تسليم السلطة، وأنه لا مجال لاستمراره فيها بعد اليوم مهما بذل من جهود، غير أن الرئيس بحسب المصادر المقربة منه والتي تحدثت إلى «الحياة» يرفض التسليم قبل الحصول على ضمانات حقيقية وكافية، بعدم تعرضه وأفراد أسرته لأي نوع من أنواع الملاحقة القضائية بعد تسليمه السلطة، مثلما حصل مع الرئيسين التونسي بن علي والمصري حسني مبارك، وأوضحت المصادر أنه من دون هذه الضمانات لن يسلم صالح السلطة مهما كلفه ذلك من ثمن. وهو ما أكده صراحة للمرة الأولى، عندما تحدث مساء الخميس الماضي أمام مجلس الدفاع الوطني، وقال: «النظام لن يسلم نفسه إلى حبل المشنقة»، وفي اليوم التالي أكد أمام حشد كبير من أنصاره ومؤيديه، في ما سمي ب «جمعة التسامح»، استعداده لتقديم تنازلات من أجل حقن دماء اليمنيين، وقال أنه مستعد «لتسليم السلطة إلى أياد أمينة»، وأضاف: «نحن لا نريد السلطة، ولكن نريد أن نسلم السلطة لأياد أمينة، وليست فاسدة وحاقدة». إصرار علي صالح على ضمانات، كان واضحاً لدى مختلف الأوساط السياسية في البلاد، ويقول عضو كتلة الأحرار للإنقاذ الوطني عبده بشر التي شكلها أخيراً برلمانيون منشقون عن الحزب الحاكم، «الواضح من الخطابين أن الرئيس يبحث عن ضمانات»، ويرى بشر أن مثل هذا الأمر ممكن الحدوث قبل إراقة المزيد من الدماء، على أن يطلب الرئيس السماح من أهالي الشهداء الذي سقطوا في ميادين الحرية والتغيير، وهذا الأمر وفق بشر يجنب اليمن الدخول في حرب أهلية. ويجزم بشر أن معطيات المشهد اليمني اليوم تؤكد «أن البلاد تسير نحو حرب أهلية، إذا لم يتم تغليب مصلحة الوطن على المصالح الشخصية وتسليم السلطة في شكل سلس وآمن»، وبما يحول دون إراقة المزيد من الدماء اليمنية، ويكفل الحفاظ على أمن واستقرار البلاد، وهو ما يحتاج بحسب مصادر سياسية متطابقة إلى تسوية سلمية للأزمة السياسية الراهنة، تتضمن ما يبحث عنه الرئيس من ضمانات، وتؤكد المصادر أن الكثير من الجهود تبذل لاحتواء الموقف، والتوصل إلى صياغة خطة متكاملة ومزمنة لعملية نقل السلطة، وترتيب المرحلة الانتقالية لهذه العملية، والتي سيتم خلالها صياغة دستور جديد وإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، وإعادة هيكلة مؤسستي الجيش والأمن وفق أسس وقواعد وطنية. وفي الوقت الذي تجزم العديد من الأوساط السياسية داخل اليمن وخارجه، على أهمية إعطاء الحكام المحفزات التي تدفعهم للتخلي السلمي عن السلطة، ومن بينها الضمانات التي يبحث عنها الرئيس صالح، ويرى سياسيون يمنيون حاجة البلاد إلى تقديم نموذج جديد، يختلف عن النموذجين التونسي والمصري والنموذج الليبي أيضاً، لتأسيس قاعدة للتداول السلمي للسلطة، بعيداً عن الدماء والمخاوف، غير أن البرلماني اليمني عبده بشر الذي لا يرى مانعاً في منح صالح الضمانات الكافية، يبحث عن ضمانات أخرى لأحزاب المعارضة اليمنية في تكتل «اللقاء المشترك»، والتي يقول أنها لن تعارض الخروج الآمن للرئيس، إذا حصلت على ضمانات لتحويل كلام الرئيس إلى أفعال ملموسة، ويرى أن الاستمرار في الخطابات من دون تنفيذ لن يدفع أحزاب المعارضة إلى المغامرة بتقديم أي ضمانات. السياسي المعارض ونائب رئيس الكتلة البرلمانية لحزب التجمع اليمني للإصلاح علي عشال، يقول إن الزعماء العرب يخافون من التاريخ، وتكشف المعلومات المتصلة بإدارتهم للحكم والتصرف بالثروات، وفتح بعض الملفات ليس بالضرورة للملاحقة ولكن للتوثيق التاريخي، وهذا الأمر في حد ذاته يشكل عامل خوف بالنسبة لهم، إضافة إلى بريق السلطة والبقاء في المقعد. ومع ذلك فعشال يؤيد الخروج الآمن للرئيس، ويقول: «أنا مع الخروج الآمن له وللشعب، وعدم جرجرة الناس إلى دوامة من العنف، في مقابل أن يكون الخروج مشرفاً ويمنح الضمانات الكافية التي تكفل عدم ملاحقته»، غير أنه يحصر هذه الضمانات في الملفات السياسية، التي يقول إن التاريخ اليمني شهد العديد من الأخطاء التي ارتكبها الكثير من السياسيين في مراحل متعددة، ولم تتم مساءلة أي شخص حولها، ويرى أن الشعب اليمني متسامح في هذا الجانب، ولن يتعرض صالح لأي ملاحقة من هذا النوع، باعتبار أن الرجل كانت له إيجابيات وسلبيات. ويستثني علي عشال من هذه الضمانات، ما يتصل بالأمور والمظالم الشخصية في إطار مواطن لمواطن، ويقول إن مثل هذه المظالم لا تسقط، ولا يمتلك أي شخص حق إعطاء الضمانات حولها، إضافة إلى موضوع الأموال والثروات التي تكدست لديهم، وإذا ما اتضحت وتكشفت المعلومات المتعلقة بهذه الأموال التي يستولون عليها، بالمقارنة مع حجم ما تعانيه الشعوب من فقر وجوع وبطالة، فإن مثل هذه الملفات، بحسب عشال ستبقى مفتوحة لأنها ترتبط بثروات الشعوب ومقدراتها، ويرى أن مسؤولين كثيرين يمكن أن يكونوا تحت طائلة المحاسبة، عندما تتكشف الحقائق المتصلة بهذه الثروات. ويتفق معه رئيس الدائرة السياسية في حزب رابطة أبناء اليمن المعارض محمد جسار، ويقول إننا ومن خلال استقراء تاريخ الصراعات اليمنية يتضح أن هناك كماً كبيراً من التسامح، مع من ارتكبوا أخطاء سلطوية، بما في ذلك الأخطاء الكبيرة، مثل أحداث 13 كانون الثاني (يناير) 1986 في جنوب اليمن، وأحداث عبدالله عبد العالم وغيرها، ولا تنظر غالبية من الشعب إلى مرتكبي تلك الأحداث على أنهم مطلوبون للعدالة، ويعتقد أن اليمن يمكن أن يقدم نموذجاً مغايراً للتجارب التونسية والمصرية والليبية، بخاصة إذا ما أدرك الشعب أنه سيضع أقدامه على بوابة تغيير حقيقية، تخلصه ميراث العقود الثلاثة الماضية من حكم الرئيس صالح، وتضعه على بوابة مرحلة جديدة تحقق أحلامه في التغيير المنشود والتنمية والرفاه. ويرى جسار أن من يعتصمون في الميادين والساحات ومن يديرون الثورة، تقبلوا في صفوفهم وببساطة ومن دون تململ، أولئك الذين قفزوا من سفينة النظام الحاكم الموشكة على الغرق إلى ميادين الحرية والتغيير، وهو ما يدل بجلاء على آلية التسامح، إضافة إلى أننا ومن خلال قراءة الخطاب الإعلامي لإدارة الثورة، يلاحظ بحسب جسار أنهم في الغالب الأعم لا يطلبون المحاكمة والمحاسبة، إلا في من قتل في الثورة، ومعنى ذلك أنهم يتغاضون عن الأخطاء السابقة لنظام الحكم. ويبرر هذا التسامح في اللحظة الراهنة، ويقول إن الناس في اليمن يخشون دخول البلاد في حرب أهلية طاحنة، وكل التوقعات تصب في الاتجاه ذاته، في حال سارت الأمور باتجاه التصعيد، وبالتالي فإن لدى اليمنيين الاستعداد الكامل لتقديم كل التنازلات الممكنة، ويرى جسار أن الحشد الكبير من أنصار ومؤيدي الرئيس صالح يوم الجمعة الماضي والذي اكتظ به ميدان السبعين جنوب العاصمة صنعاء، يؤكد تلك المخاوف، مشيراً إلى أن تلك الجموع هي للناس الذين يخشون من اشتعال الحرب الأهلية، وبالتالي فإن تسليم السلطة بسلاسة وهدوء أمر مطلوب ومهم جداً، مقابل تلك الضمانات التي يبحث عنها الرئيس اليمني.