عقدت في بيروت ندوة لم تخل وقائعها من الطرافة التي جاءت من مدى التباعد بين مفكري العرب (موالين ومعارضين) والمجريات العميقة للإنترنت. ربما يزيد في الطرافة التي تقرب من المأساة، أن الندوة عُقدت بعد «ثورة 25 يناير» التي هرول كثيرون من مفكري العرب نحو عقد روابط سطحية بينها وبين الإنترنت، خصوصاً «فايسبوك». حملت الندوة عنوان «المصدر المفتوح في عالم الإنترنت والأوراق المسربة كمعطى». حضرت الندوة مجموعة لافتة من المفكرين، وهم لا يتحملون وزر الخطأ الهائل الذي وقع فيه الطرف الذي أشرف على إعداد الندوة. وقُدّمت في الندوة أعمال راقية المستوى عن الإعلام الجديد والشفافية والمواطنة والديبلوماسية والسياسة وغيرها. واستطراداً، يصعب عدم القول بأن الأسماء التي حضرت هذه الندوة، هي من نخبة المفكرين العرب، الذين أثروا (ويثرون) الحياة الثقافية العربية بعطاءاتهم. ولكن، يصعب أيضاً ألا يُسأل الطرف المُنظّم لهذه الندوة، وهو «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، عن علاقة ذلك كله بالمصدر المفتوح «أوبن سورس» Open Source؟ لم يحاول تعريف المصدر المفتوح على الإنترنت، ولا الإشارة إلى تاريخه وعلاقته بمسارات كبرى على الإنترنت. وللتوضيح، فإن «البرامج المفتوحة المصدر» و«التشارك الإبداعي» هي حركات واسعة في الولاياتالمتحدة والغرب، تدعم مفاهيم عن الملكية الفكرية، تختلف عما تُروّج له الشركات العملاقة، و«منظمة التجارة العالمية». ويجدر التشديد على أن هذه الحركات ليست ضد المُلكية الفكرية، كما قد يتبادر إلى الأذهان، بل أنها تسعى إلى ممارسة مختلفة لتلك المُلكية، بحيث تضمن حقوق المُبتكرين من جهة، وتحافظ على مسار عملية الإبداع اجتماعياً وثقافياً من الجهة الأخرى. وتوضيحاً أيضاً، تسمح حركة البرامج ذات المصدر المفتوح بتوزيع المنتجات الفكرية وتداولها، ضمن معايير مختلفة تماماً عن تلك المستعملة في البيئة التجارية. مثال ذلك معايير مثل «الترخيص العام» (يعرف باسمه المختصر «جنو» GNU، مع الإشارة إلى وجود شعار يقول «جنو» وليس «يونكس»). ويسمح «جنو» للأفراد بتبادل البرمجيات ونسخها وتحسينها، وحتى بيعها، مع ذكر مصدر المواد الأصلية. يسمح هذا النموذج للمبدعين بالبناء على أعمال أخرى. وفي الوقت نفسه، يسهّل قدرة المؤلفين على كسب المال من أعمالهم. في المقابل، ثمة نموذج لتعزيز التشارك في الأعمال الإبداعية، ترعاه منظمة حُرّة تعرف باسم «التشارك الإبداعي» Creative Commons، التي تُسمى أيضاً حركة «المبدعون العامون» (كرييتف كومنز). وفي لبنان، وعلى بعد أمتار قليلة من مكان انعقاد الندوة، هناك صحيفة، هي «الأخبار» اللبنانية، تتفرّد بأنها تصدر ضمن نموذج «كرييتف كومنز». ويعمل نظام «كرييتف كومنز» عبر اتفاقيات ترخيص جديدة تقدّم مستويات من القيود تختلف اختلافاً كبيراً عن القيود التقليدية، إذ تتيح هذه الاتفاقيات الجديدة للمؤلفين نشر أعمالهم مع الاحتفاظ بحقوق توفر لهم أنواعاً متعددة من الحماية، مثل عدم السماح بإعادة توزيع العمل لأغراض تجارية (على عكس الحال في «جنو»). وتسمح بالنسخ غير المحدود للعمل الأصلي والبناء عليه طالما أن الناتج يشير إلى المؤلف، كما تتيح نسخ العمل الأصلي كما هو، وليس بالأعمال المشتقة، أو أنها تسمح للعمل المشتق حصرياً، بموجب ترخيص مطابق للترخيص الذي يحكم العمل الأصلي. وأنواع التراخيص التي يروّجها هذا النموذج هي : غير تجاري Non Commercial، بشرط الإسناد attribution ، بعدم السماح بالأعمال المشتقة derivative work ، المشاركة بالمثل Share alike.ومن أهم ميزات نظام التشارك الإبداعي مساهمته في بناء المحتوى التعاوني. فمثلاً، تستخدم رخصة التشارك الإبداعي لتسهيل الحماية المادية للمحتوى الناجم عن مجموعة مستعملين. وتعتبر الموسوعة الإلكترونية «ويكيبيديا» مثالاً معروفاً عن هذا النموذج. وتوجد على الموقع المخصص لهذا النموذج «كرييتف كومنز.أورغ» Creative Commons.Org ملفات موسيقى وأشرطة فيديو ومواد تعليمية، جرى إيداعها بصورة مفتوحة للجمهور، تحت مظلة التشارك الإبداعي. وربما لكونه نموذجاً قابلاً للنقاش على الأقل، ازداد استعماله بشكل ملحوظ في مجتمع المبدعين ممن يسعون إلى صيغ خلاّقة من قوانين المُلكية الفكرية. وفي المقابل، ناصبت الشركات الإعلامية العملاقة، مثل رابطة صناعة التسجيل الأميركية («أر أي إيه إيه» RIAA) و»رابطة الأفلام الأميركية» («أم بي إيه إيه» MPAA) العداء لنموذج التشارك الإبداعي، بدعوى أنه لا يحمي منشئي المحتوى. ويرد مؤيدو هذا النموذج بأن تلك الانتقادات إنما تأتي فعلياً من الخطر الذي يشكله الإطار الإبداعي على الأعمال التي تهيمن عليها الرابطتان الأميركيتان السابقتان. ولهذا النقاش بقية.