يتحضر فارس شاب بلباس الجرد التقليدي الليبي، مستظلاً بأشجار الصنوبر والكينا، للانطلاق في سباق شعبي للخيل يشكل متنفساً للسكان الغارقين في فوضى الحياة اليومية في ليبيا. ووسط الجموع الحاشدة من المتفرجين، الحماسة في أوجها، ويركض أطفال في كل الاتجاهات فيما يحاول الكبار إبعادهم من الميدان قبل انطلاق هذه السباقات العربية التقليدية. هذا العرض الشعبي لسباق الخيل ينسي الليبيين لساعات قليلة واقعهم الصعب المشوب بالعنف وانعدام الأمن وحالات النقص في المواد الأساسية، في هذا البلد الذي تهيمن الميليشيات على أنحاء واسعة منه ويتعرض لهجمات متكررة من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية وتتنازع سلطتان متعارضتان السلطة فيه. وتشهد مدينة الزاوية الساحلية، المطلة على البحر المتوسط على بعد 45 كيلومتراً إلى الغرب من العاصمة الليبية طرابلس، سباقات أسبوعية للخيل خلال عطلة يوم الجمعة. ويقدم الفرسان فيها عروضاً آسرة على ظهور خيول مزدانة بأبهى الأثواب والزخارف الزاهية، بينها السروج التقليدية الليبية التي تجمع الجلد والمخمل والنسيج وتشكل «درة» الحرف اليدوية الليبية، مع إضافة التطريز واللوحات الفضية عليها. يرفع الخيالة المصطفون بدقة على خط الانطلاق لباس الجرد قليلاً على الرأس قبل الانطلاق، فور سماع قائد المجموعة يهتف مردداً نشيداً تقليدياً كان يسبق في أزمنة غابرة المعارك. وفي منتصف السباق، يقف المتسابقون متكئين على الركاب المتصلة بالسروج. الهدف يكمن في التقدم على الآخرين، لكن مع الإبقاء على وتيرة واحدة في السباق والوصول في الوقت ذاته على خط واحد. ويبدي علي الهادي عمارة المتحدر من الزاوية وهو أحد هؤلاء الفرسان لوكالة «فرانس برس»، فخره إزاء الحفاظ على هذا التقليد المتوارث منذ قرون عدة سواء من خلال ارتداء الأزياء التقليدية أو تجهيز الخيول بالسروج الليبية المميزة. ويقول الفارس البالغ من العمر 46 سنة إن سباقات الخيل «تجري في دمنا»، مشيراً إلى أنها رياضة لا تزال تجذب كثيرين من مختلف الأعمار. ويمارس يوسف مبارك العبودي العضو في لجنة التحكيم للمهرجان الشعبي في الزاوية بدورته السابعة، رياضة الفروسية منذ الصغر. ويروي أن عدداً كبيراً من الفرسان لا يتوانون مثله عن اجتياز مسافات طويلة للمشاركة في سباقات الخيل. ويجابه هؤلاء المولعون بهذه الرياضة الخطر والأمن المتفلت ويجتازون على مسؤوليتهم الخاصة مئات الكيلومترات مع خيولهم. ويشجع الاتحاد الليبي للفروسية على رغم ضعف إمكاناته على الأنشطة الرياضية والأحداث ذات الطابع التراثي في سائر مدن البلاد. وسمحت شعبية هذه السباقات بالإبقاء على هذه المهارات الليبية المتوارثة عبر الأجيال في صنع السروج، وهو إنجاز في بلد أتت أعمال العنف المستشرية فيه على أنشطة كثيرة. ويوضح إبراهيم سويدان (38 سنة) وهو أحد الحرفيين الليبيين العاملين في هذه الصنعة لوكالة فرانس برس أن «هذه السروج استخدمها الأجداد الذين حاربوا الغزاة الإيطاليين» قبل أن تستخدم لاحقاً لتزيين الخيول في الأعياد والاحتفالات الشعبية والأفراح. ويلفت شقيقه مصطفى سويدان إلى أن هذا النشاط «ورثناه عن آبائنا وأجدادنا». ويشير إبراهيم الذي تعلم هذه الحرفة منذ الطفولة إلى أن «عائلتنا تصنع السروج منذ أكثر من قرن». وسجل سعر السرج ارتفاعاً بواقع أكثر من ثلاث مرات حالياً. ويوضح يوسف ابو ستة، وهو صاحب متجر لعدة الفروسية في ضاحية العاصمة طرابلس، أن الأسعار ارتفعت على غرار سائر القطاعات بسبب الأزمة التي تشهدها ليبيا. أزمة بأوجه عدة مالية واقتصادية وسياسية. ففي هذا البلد الغني بالنفط الذي يستورد كل حاجاته تقريباً، على الحرفيين اللجوء إلى السوق الموازية حيث أسعار الصرف مرتفعة للغاية للحصول على العملات النقدية التي تتيح لهم استيراد المواد الأولية اللازمة لتصنيع السروج. ويوضح أحد مربي الخيول في منطقة طرابلس أن سعر السروج يراوح بين ثلاثة آلاف دينار ليبي وعشرة آلاف (2200 دولار و7300) بعدما كان بحده الأقصى يصل إلى أربعة آلاف دينار (2900 دولار) قبل بضع سنوات.