«أكاديمية الإعلام» تبحث تطوير الكفاءات الوطنية    «عكاظ» تكشف تفاصيل السياسة الوطنية للقضاء على العمل الجبري    من «دافوس».. «الجبير» يبحث التعاون المشترك مع البيرو والأمم المتحدة    ولي العهد للرئيس الأمريكي: توسيع استثمارات السعودية مع الولايات المتحدة ب 600 مليار دولار    اتحاد بنزيما «شباب وعميد»    بين «الجوادي» و«الحاتمي».. أحلامُ خيطٍ رفيع    «ميناء القصيم الجاف» نقلة لوجستية إستراتيجية    السعودية تستعرض ثمار رؤيتها 2030    مهرجان الخرج للتمور    إغراق سفينة حملت رؤساء أمريكا عمداً.. لهذا السبب!    الفيصلي يستقبل الجبلين.. وجدة ضيفًا على الجندل    تنبيه من الدفاع المدني: أمطار رعدية حتى الاثنين المقبل    الزميل رابع سليمان يجري عملية جراحية    "بن مريخان" يحتفي بزواج حبيب    حرائق أمريكا.. هل من مُدَّكِر؟!    أمير الشرقية يستقبل الفائزين من "ثقافة وفنون" الدمام    مدير الأمن العام يستقبل نظيره الجزائري    1000 معتمر وزائر من 66 دولة هذا العام.. ضيوف» برنامج خادم الحرمين» يتوافدون إلى المدينة المنورة    رئاسة الحرمين تفعّل مبادرة «توعية قاصدينا شرف لمنسوبينا»    أمانة الشرقية تنجز مشروعات تطوير الطرق    السعودية تدين وتستنكر الهجوم الذي شنته قوات الاحتلال الإسرائيلية على مدينة جنين في الضفة الغربية المحتلة    النفط يواصل خسائره مع إعلان حالة الطوارئ الوطنية للطاقة الأميريكية    البازعي ل«عكاظ»: الجيل الحالي نشأ في فضاء أكثر انفتاحاً ووعياً بأهمية الحوار    حائل تطلق برنامج «المراقبين المدربين»    الشيخ إبراهيم بن موسى الزويد في ذمة الله    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالسويدي ينهي معاناة مراجع مع مضاعفات عملية تحويل المسار بجراحة تصحيحية نادرة ومعقدة    3587 عملية قلب مفتوح وقسطرة في صحي جازان    مستشفى الرين يحقق قفزة نوعية في «2024»    في نجاح الأعمال ليس للصمت مكان    ماذا بعد ال"تيك-توك" ؟    بين الإعلام والتقنية.. حروب بلا أسلحة    وزير العدل يلتقي السفير الصيني    مختل «يذبح» جاره في مصر.. مصدر أمني ل«عكاظ»: القاتل يهذي بكلمات غير مفهومة    القيادة تعزي الرئيس التركي في ضحايا حريق منتجع بولو    سليمان المنديل.. أخ عزيز فقدناه    وصية المؤسس لولي عهده    سعود بن نايف يكرم الداعمين لسباق الشرقية الدولي للجري    شهقة ممصولة    قرعة كأس آسيا تحت 17 عاماً تسحب اليوم    «المسابقات» تنهي التحضيرات لانطلاق دوري النخبة    ندوة الإرجاف    المجتمع السعودي والقيم الإنسانية    ثقافة الابتسامة    "المطيري": استراتيجية جديدة ونقلة نوعية قادمة للعبة التايكوندو    مسؤولون: الجيش الأميركي يستعد لإرسال 1500 جندي إضافي إلى الحدود    هندسة الحروب بين الشعوب!    نموذج الرعاية الصحية.. الأثر والرعاية الشاملة !    مستشفى الملك فهد الجامعي يجدد اعتماد «CBAHI» للمرة الرابعة    اختتام المخيم الكشفي التخصصي على مستوى المملكة بتعليم جازان    فرنسا تبدي قلقا كبيرا إزاء «تصاعد» التوترات الأمنية في الضفة الغربية    "ملتقى القصة" يقدم تجربة إبداعية ويحتضن الكُتّاب    الفن التشكيلي السعودي في كتاب    "لسان الطير"    رابطة العالم الإسلامي تعزي تركيا في ضحايا الحريق بمنتجع بولاية بولو    حسام بن سعود: التطوير لمنظومة العمل يحقق التطلعات    بدء أعمال المرحلة الثانية من مشروع تطوير الواجهة البحرية لبحيرة الأربعين    الأمير محمد بن ناصر يدشن المجمع الأكاديمي الشرقي بجامعة جازان    وفد "الشورى" يستعرض دور المجلس في التنمية الوطنية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وصيّة جو كوكس: أنقذوا مدنيّي سوريّة بالتدخّل العسكريّ
نشر في الحياة يوم 20 - 10 - 2017


(إلى بشّار حيدر)
جو كوكس اسم ضميريّ وأخلاقيّ قبل أن يكون اسماً سياسيّاً. لقد انتخبت، بوصفها ناشطة إنسانيّة ومناضلة في حزب العمّال البريطانيّ، نائبة عن دائرة «بتلي إند سبن»، في انتخابات أيّار (مايو) 2015. لكنْ في حزيران (يونيو) 2016 (ولم تكن قد بلغت ال 42 سنة) عاجلها يمينيّ متطرّف ومهووس بطلقات ناريّة أتبعها بطعنات عدّة.
كوكس عُرفت عربيّاً بدفاعها عن حقوق الفلسطينيّين ومناهضتها حرب العراق في 2003، ثمّ بالدفاع عن التدخّل في سوريّة لحماية المدنيّين ووقف أعمال القتل والتهجير والترويع.
مؤخّراً صدر كرّاس يحمل عنوان «كلفة عدم القيام بأيّ شيء – ثمن العطالة في مواجهة الارتكابات على نطاق واسع»، نصُّه وُلد أوّلاً كفكرة مشتركة بين كوكس وزميل لها هو النائب توم توغندهات. وإذ قُتلت قبل كتابة النصّ فقد أنجز المهمّة توغندهات والنائبة أليسون ماكغفرن التي شاركت كوكس أفكارها وقناعاتها. لقد حاول توغندهات وماكغفرن نقل تصوّرات النائبة الراحلة وهواجسها في هذا الكرّاس الذي نشرته مؤسّسة «بوليسي إكستشاينج» البحثيّة وغير الربحيّة مستهلّةً به المشروع الذي أطلقته بعنوان «بريطانيا في العالم».
في المناطق المنكوبة بالحرب
لقد جمع بين كوكس وكاتبي الكرّاس اعتراض على ميل متزايد في بريطانيا إلى الانكفاء الداخليّ عن العالم، وقناعة بضرورة الجمع بين تصوّر عن المصلحة الوطنيّة وبين رؤية إنسانيّة مآلها منع الارتكابات، وتالياً مناقشة استخدام القوّة العسكريّة لخدمة الهدف هذا.
وجو كوكس قبل أن تكون نائبة، نشطت سنوات طويلة في نطاق العمل الإنسانيّ داخل بلدها وخارجه: عملت مع «أوكسفام إنترناشونال» و «أنقذوا الأطفال» ومنظّمات أخرى مشابهة، ولأجل هذا سافرت إلى مناطق حربيّة ومنكوبة بالحرب، من كشمير إلى غزّة، ومن أفغانستان إلى الكونغو ودارفور. أمّا إبّان إجازاتها فكانت، بصحبة زوجها، تقصد البوسنة وكرواتيا للعمل مع الأطفال الذين فقدوا آباءهم.
لقد أكسبتها خبرتها مع النزاعات، من التحدّث مع أطفال نجوا من مذبحة سربرينيكا إلى مخالطة نساء تعرّضن للاغتصاب في دارفور، رغبة حارقة في فعل كلّ ما يمكن فعله لإنقاذ المدنيّين في الحروب.
وكنائبة لم تزد فترة نيابتها كثيراً عن السنة، تركت جو كوكس بصماتها، إذ خاضت عدداً من الحملات في الداخل والخارج: من مكافحة العزلة والتوحّد بين المسنّين إلى الدفاع عن ضحايا الحرب السوريّة. وعلى رغم حماستها لحزبها، حزب العمّال، فإنّها لم تتردّد في العمل مع أيّ كان، بغضّ النظر عن لونه الحزبيّ، في سبيل خدمة قضيّة ما تؤمن بصوابها، أو في انتقاد حزبها ومناوأته حين يتراءى لها أنّه يسلك طريقاً خاطئاً.
آراء متناثرة
يُستَهلّ الكرّاس بمقتطفات كتبتها جو، منها واحد يعود إلى تشرين الأوّل (أكتوبر) 2015، حيث ترى أنّ العالم يُمتحَن كلّ عقد أو ما يقاربه امتحاناً إنسانيّاً تنمّ استجابته عن طبيعة الجيل المعنيّ، وسوريّة اليوم هي «امتحان جيلنا». فهل نتقدّم لنلعب دوراً في منع «إيران وروسيا والأسد والدولة الإسلاميّة من تحويل البلاد إلى مقبرة»، أم نتذرّع بأنّ المسألة معقّدة ولا قبل لنا بها؟ وهي لا تلبث أن تجيب: «كائناً ما كان قرارنا، فإنّ نتائجه ستعيش معنا إلى الأبد، وأنا أسأل كلّ واحد منّا أن يتحمّل شخصيّاً مسؤوليّته».
ثمّ تنتقد الحزبين، المحافظين وحزبها حزب العمّال. فهي بعد أن تعلن افتخارها بالماضي الأمميّ للأخير حين تطوّع آلاف منه في الحرب الأهليّة الإسبانيّة، وبقادة كالوزير الراحل روبن كوك الذي طالب بالعمل الفوريّ لوقف قتل المسلمين في البوسنة، وكذلك بتدخّل الحكومة العمّاليّة في كوسوفو وسييراليون، تنعى تراجع هذا الحسّ، بل تعطّله، وتكتب بالحرف: «لقد غرق قلبي وأنا أشاهد، في 2013، كيف أنّنا، بعد استخدام الرئيس الأسد الأسلحة الكيماويّة ضدّ المدنيّين، صوّتنا ضدّ الردّ العسكريّ، وبعد ذاك استبعدنا كلّ الحلول العسكريّة». ولئن ردّت كوكس المسؤوليّة الأولى والأساس إلى حكومة المحافظين، فإنّها سجّلت أيضاً مسؤوليّة حزبها في ترك الأسد يمضي بلا عقاب، و «بنتيجة هذا، خسرتْ المجموعة الدوليّة كلّ صدقيّة في الجهود اللاحقة لوقف انتشار الحرب الأهليّة المرعبة وآلامها». ذاك أنّ الفشل في التدخّل لحماية المدنيّين ترك الأسد حرّاً في تصعيد وتيرة هجماته وشراستها «على الأبرياء السوريّين، في محاولة يائسة منه للتعلّق بالسلطة».
وتُرجع الكاتبة مصدر هذا الموقف إلى «الفصل الأشدّ إعتاماً في تاريخ [حزب] العمّال»، قاصدة حرب العراق التي عارضتها وتظاهرت ضدّها، إذ خلّفت «ندوباً» على جميع الحزبيّين، «لكنْ دعنا نكن واضحين لجهة أنّ سوريّة ليست العراق». وهي إذ تعيد التذكير بموقفها الرافض للمشاركة في حرب العراق، بسبب ما ترتّبه من ضحايا مدنيّين ولعدم قناعتها بالأهداف المعلنة لها، تنتقل إلى التذكير بما شاهدته كناشطة في المنظّمات الإنسانيّة من عذابات ضحايا الحروب وأطفالها. فهذه التجارب التي جعلتها تعادي الحروب هي نفسها التي تدفعها إلى تأييد التدخّل الحربيّ لوقفها. ذاك أنّ الحاجة تبقى ماسّة لمثل هذا التدخّل على قاعدة إنسانيّة حين لا تكون الحكومة المعنيّة راغبة في حماية مدنيّيها أو قادرة على توفيرها، إذ السيادة الوطنيّة ليست إجازة للقتل بلا رقيب. وإذا كان الإرث العراقيّ ثقيلاً فإنّ عدم التدخّل في سوريّة سيزيده تثقيلاً على الضمائر. لا بل إذا كان تجنيب العراقيّين مئات آلاف القتلى سبب العداء للحرب، فهذا الهدف نفسه هو ما يدفع إلى المطالبة بالتدخّل في سوريّة.
وقد اختتمت جو كوكس فقرة كتبتها ووقّعتها لكتاب عن ذكرى الهولوكوست بالأسطر التالية: «علينا الآن أن نتأكّد من أنّ حكومات العالم ستفي بوعودها حول منع المجزرة والجرائم الأخرى ضدّ الإنسانيّة. فلا ينبغي أبداً أن نترك الأبرياء يتألّمون كما حصل لهم في الهولوكوست Never again».
وفي كلمة أخرى كتبتها في «هافنغتون بوست» يوم تصويت مجلس العموم البريطانيّ على شنّ ضربات جوّيّة على داعش، في 2 كانون الأوّل (ديسمبر) 2015، جاء التالي: «أنا لست ضدّ الضربات الجويّة من حيث المبدأ. في الحقيقة، وكجزء من إستراتيجيّة متكاملة لسوريّة، فإنّ تلك الضربات هي، وفي ما يشبه المؤكّد، جزء ضروريّ. لكنّ الضربات الجوّيّة تكتيك وليست إستراتيجيّة، وهي ستفشل من دون إستراتيجيّة. كلّ من تحدّثت إليهم يقرّون بأنّ الضربات الجوّيّة وحدها لن تنفع. مع هذا فالتركيز على العناصر الأخرى للإستراتيجيّة ضعيف جدّاً بما يحول دون فعاليّتها. لقد جادلت طويلاً بأنّ الدولة الإسلاميّة والأسد ليسا مشكلتين منفصلتين لكي نختار بينهما. إنّهما الفعل وردّ الفعل، السبب والعارض، الدجاجة والبيضة، إذ يستحيل فكّ واحدهما عن الآخر مهما رغبنا في ذلك. إنّ وحشيّة الأسد الذي قتل سبعة أضعاف المدنيّين الذين قتلتهم الدولة (...) ساعد على إنماء الدولة (...) بهذا لا بدّ من التعامل معهما معاً من ضمن إستراتيجيّة متكاملة». وفي النهاية تستخلص: «بأسف، أشعر أنّ ما من خيار لديّ سوى الامتناع عن التصويت حول سوريّة».
تدخّل أو لا تدخّل: ثنائيّ زائف
يبدأ الكرّاس بنقد هذا التوافق العابر للإيديولوجيّات والأحزاب، من أعضاء «يوكيب» (اليمينيّ) إلى ائتلاف «أوقفوا الحرب» (اليساريّ)، على رفض كلّ تدخّل في الخارج، مع ما في ذلك من حرمان بريطانيا كلّ قدرة على المساهمة في تشكيل الأحداث خارج حدودها. فأمر كهذا يبقى خطراً يهدّد سلامة المدنيّين في العالم بقدر خطورته على المصالح الوطنيّة لبريطانيا.
فإذا كان أساسيّاً أن «نتعلّم دروس العراق وأفغانستان»، وأن تتحلّى كلّ خطوة تدخّليّة بالحذر الشديد، فإنّ الاستجابة الصائبة ليست، في المقابل، رفض القيام بأيّ عمل. فالمطلوب تطوير أحكام أدقّ عن كيفيّة التدخّل وتوقيته، وينبغي دائماً استبعاد الانتقائيّة في قراءة التاريخ، إذ يجب أيضاً تعلّم دروس رواندا والبوسنة، حيث أدّى عدم التدخّل إلى المجزرة، على عكس الدور المشرّف الذي أدّته بريطانيا تبعاً لتدخّلها الإنسانيّ في كوسوفو وسييراليون للحدّ من العنف الدائر.
فالأمر، إذاً، كما يوحي الكرّاس، ليس موقفاً إطلاقيّاً من التدخّل، كلّ تدخّل، ولا هو مفاضلة جامعة مانعة بين التدخّل وعدمه.
لقد التزمت، في 2005، كل الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة بحماية سكّانها من «المجزرة وجرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانيّة والتطهير العرقيّ». وهذا التطوّر الكبير الذي بات يُعرف ب «المسؤوليّة عن توفير الحماية»، إنّما يقود إلى تفكير مختلف في شأن السيادة الوطنيّة. فهو يتضمّن ربط السيادة، كي تكون سيادة محترمة، بمسؤوليّات معيّنة مثل حماية المدنيّين من العنف، وكون استخدام العنف ضدّ «سيادةٍ» لا تلتزم هذه المسؤوليّة أمراً محتملاً، وأحياناً ضروريّاً.
وفي وسع بريطانيا، كعضو دائم في مجلس الأمن وكبلد مؤثّر اقتصاديّاً وفكريّاً وإعلاميّاً، أن تستخدم هذه «القوّة الناعمة» التي لديها، بما في ذلك من تقديم المعونة أو فرض المقاطعة. لكنّ هذا كلّه قد لا يؤثّر إن لم يترافق مع الإيحاء بالجاهزيّة والاستعداد العسكريّين. وبالتالي، فإنّ إرادة التصرّف بما يمنع الارتكابات الواسعة النطاق، ومن ثمّ القدرة على التدخّل العسكريّ في ظروف استثنائيّة، عنصر جوهريّ في استراتيجيّة بريطانيا الكبرى المفترضة. فلكي يكون لبريطانيا تأثير إيجابيّ في العالم، ولكي تحتفظ بصورتها كحليف فاعل وموثوق من حلفائها، ينبغي أن يبقى التدخّل العسكريّ أداة شرعيّة من أدوات السياسة الخارجيّة.
سوريّة والتجارب الأخرى
لقد طغت حجج المناهضين للتدخّل على الكثير من السجالات التي دارت حول سوريّة، فأعمتنا عن رؤية الصورة الأكبر. وهي ركّزت على وهم يقول إنّ في وسع المملكة المتّحدة أن تتغاضى عن تحدّيات عميقة تواجه أصدقاءنا وحلفاءنا، وعن معاناة قطاعات واسعة من السكّان في عالم متزايد الترابط. وكان الحريّ بخائضي هذه السجالات تناول كلّ واحدة من المسائل على حدة، مع كامل الاحترام للحقائق والمعطيات. فالمجازر والجرائم ضدّ الإنسانيّة لا تُعالَج برطانة الباسيفيّة الإيديولوجيّة أو بالمناهَضة المعتقديّة للتدخّل.
فالقول إنّ التدخّل غير عمليّ، أو أنّه لا ينقذ أرواحاً بشريّة، ينطوي على تضليل بعيد. ذاك أنّ التاريخ يزوّدنا بأمثلة بعضها إيجابيّ وبعضها سلبيّ والبعض الثالث بين بين، وما علينا إلاّ التعلّم منها كلّها.
فإدراك أهميّة التدخّل لأهداف إنسانيّة واستجابةً لمسؤوليّة أخلاقيّة حيال المدنيّين إنّما بلغ ذروته في بريطانيا أواخر التسعينات. ومنذ ذلك الحين بدأ هذا المبدأ يتعرّض للنبذ تحت وطأة الحربين في أفغانستان والعراق. وهناك مبرّرات جدّيّة لرفض التورّط في الحربين هاتين. فغزو العراق مضى في سبيله من دون غطاء الأمم المتّحدة وشرعيّتها، وفي مواجهة معارضة واسعة من الرأي العامّ، واعتقاد لا يقلّ اتّساعاً بأنّ توني بلير وحكومته يبالغان في وصفهما الخطر المتأتّي من بغداد. ومؤخّراً جاء تقرير تشيلكوت ليضيف النقص الفادح الذي انطوى عليه التخطيط لما بعد الحرب. كذلك لم تكن التجربة الغربيّة في أفغانستان بين 2001 و2014 سوى سبب آخر للحذر ممّا يُصوّر بخفّة وتسرّع على أنّه انتصارات.
إنّ الإخفاقات التي أنتجتها هاتان الحربان وأكلافهما الإنسانيّة الضخمة دمّرت الفكرة القائلة إنّ في وسع التدخّل العسكريّ أن يفضي إلى خلاصات إنسانيّة، تمهيداً لرفض مبدأ التدخّل نفسه. والأسوأ هو اعتبار هذا التدخّل مجرّد مهمّة عسكريّة تتعارض، أو على الأقلّ تتقابل، مع مهمّات أخرى كالديبلوماسيّة وتقديم المعونات. هكذا نُبذت بقوّة فكرة «بناء الأمم» لأنّها، في العراق كما في أفغانستان، مكلفة جدّاً وصعبة جدّاً. والحال أنّ الوظيفة الإنسانيّة والتدخّليّة وبناء الأمم نشاطات ثلاثة منفصلة، لكنّ الكثيرين، بعد حربي العراق وأفغانستان، ربطوا بينها ورأوا إليها ككلّ واحد مرفوض. ولئن كان هناك من تبرير مقبول لهذه المواقف فإنّ التبرير، مع هذا، لا يخلو من تبسيط: فإعدام فكرة التدخّل بالمطلق لا يأخذ في الاعتبار العنف القائم في كلّ واحد من البلدان، والأكلاف الإنسانيّة التي كانت لتترتّب لو أنّ التدخّل لم يحصل.
ووضعاً للأمور في نصابها، علينا أن نتذكّر أنّ العنف كان يفتك بأفغانستان تبعاً لصراعات سبقت الغزو الغربيّ، وأنّ سنوات مديدة من الحرب كانت قد أدمت ذاك البلد، خصوصاً بفعل الحملة السوفياتيّة في الثمانينات. ومع أنّ من الصعب التوصّل إلى رقم دقيق للقتلى على امتداد السنوات العشرين من الحرب الأهليّة التي سبقت التدخّل، فليس من الحصافة تجاهل التقديرات الكثيرة عن أرقام الألم والمعاناة حينذاك. وبالمعنى نفسه، كان نظام العراق ما قبل 2003 قد ارتكب الحرب مع إيران وحرب الخليج الأولى، فيما العراق نفسه كان موضوعاً لعبث الديكتاتوريّة الوحشيّة لصدّام حسين التي كانت مسؤولة عن موت مئات الآلاف من مواطنيها.
وتقدّم ليبيا نموذجاً آخر عن التعقيدات التي يثيرها استخدام القوّة العسكريّة لحماية المدنيّين. ففي 2011 كان العقيد القذّافي يهدّد بقتل كلّ أبناء بنغازي الذين تربطهم صلة ما بالثورة الليبيّة. وكانت المملكة المتّحدة جزءاً من ائتلاف عريض تدخّل لمنع ذلك، فيما طلبت الجامعة العربيّة مثل هذا التدخّل ومرّر مجلس الأمن قراراً صِيغ على قاعدة مبدأ «المسؤوليّة عن توفير الحماية». وهذا يعني أنّ الحملة التي قادها حلف الناتو كانت موضع تقبّل واسع بوصفها عملاً شرعيّاً. وبالمقارنة بالعراق وأفغانستان، جاء العمل سريعاً وحاسماً، كاشفاً حجم الفارق في القوّة بين قوّات القذّافي والناتو. هكذا حيل دون المذبحة التي هُدّدت بها بنغازي ثمّ قبض المنتفضون على القذّافي نفسه وقتلوه، وكان ذلك بعد سبعة أشهر على ابتداء التدخّل.
على أيّة حال فالعمليّة نفسها ما لبثت أن صارت موضع جدل، لا بل بدأ الجدل قبل سقوط القذّافي حين زعمت روسيا أنّ الولايات المتّحدة ضلّلتها وأنّ الهدف الفعليّ لواشنطن هو تغيير النظام. وتزايد التعقيد بعد انتهاء الحرب مع مضيّ الميليشيات الكثيرة في القتال البينيّ، فضلاً عن القتال مع الأجهزة الأمنيّة الرسميّة. وفي 11 أيلول (سبتمبر) 2012 هاجم إسلاميّون القنصليّة الأميركيّة في بنغازي، وقتلوا السفير الأميركيّ وثلاثة أشخاص آخرين. وعلى رغم انقضاء خمس سنوات، لا يزال الوضع ملبّداً، كما تجد نفسَها الحكومةُ التي تحظى باعتراف الأمم المتّحدة في تنافس على السلطة مع أطراف ليبيّة أخرى.
على هذا النحو انتُقدت بريطانيا وحلفاؤها لفشلهم في الخروج بتقييم صائب لانتفاضة 2011 وفرصها في بلوغ مستقبل مستقرّ لليبيا. لكنّ نقّاداً يجادلون بأنّ الامتناع عن دعم حكومة ما بعد القذّافي هو ما سرّع الانهيار السياسيّ والاقتصاديّ وعبّد الطريق لصعود الدولة الإسلاميّة اللاحق في شمال أفريقيا.
وكائناً ما كان الأمر، وبغضّ النظر عن وجاهة الانتقادات، ينبغي أيضاً النظر من زاوية أخرى: فما الذي كان ليحدث لو لم يتمّ التدخّل؟ ذاك أنّ التدخّل أنقذ عشرات الآلاف من مذبحة القذّافي التي لا تشبهها بتاتاً مستويات العنف الراهن ولا تقاربها البتّة. وهذا المسار إذا كان يقدّم حججاً لأنصار التدخّل كما لخصومه، فإنّه يتيح لنا القول إنّ التدخّل نفسه كان ناجحاً، فيما الفاشل هو ما حصل بعد التدخّل.
حالات نجاح
ما وراء أفغانستان والعراق وليبيا، كائنة ما كانت الحجج والحجج المضادّة، هناك أمثلة عن تدخّل ناجح. وهذا ما يعني ضرورة توسيع رقعة النظر لدى محاكمتنا مبدأ التدخّل. فمثلاً، كان لإنشاء منطقة منزوعة الطيران في شمال العراق عام 1991 أن أمّن حماية الأكراد من ضربات جوّيّة مهلكة لصدّام حسين. والآن نرى الأكراد يلعبون دوراً محوريّاً في قتال الدولة الإسلاميّة. وفي وقت أحدث عهداً، في 2014، كان الطيران الملكيّ البريطانيّ مساهماً أساسيّاً في سلسلة العمليّات الدوليّة الناجحة لتوفير المعونات لإيزيديّي العراق العالقين في جبل سنجار، وهو ما كسر حصار الدولة الإسلاميّة لهم وأنقذ الآلاف من الذبح.
والمثل الآخر للنجاح يقدّمه تدخّل الناتو في كوسوفو في 1999 لحماية عشرات آلاف الكوسوفيّين المدنيّين ممّن تهدّدتهم حملات التطهير العرقيّ للقائد الصربيّ سلوبودان ميلوسيفيتش. والمثل هذا كان في البداية موضوعاً خلافيّاً إذ إنّ التدخّل سبق صدور قرار عن مجلس الأمن. مع ذلك فعمليّة الناتو تلك لم تُشنّ إلاّ بعد استنفاد المحاولات الديبلوماسيّة كافّة، بحيث صار عدم التحرّك بمثابة غطاء شرعيّ لأفعال ميلوسيفيتش وتهديم لكلّ صدقيّة تتمتّع بها المؤسّسات الغربيّة. صحيح أنّ ذاك المخطّط اعترته بضع فجوات، ومن ضمنها نقص القوّات البرّيّة، إلاّ أنّ النتيجة كانت في المجمل إيجابيّة: فقد تمّ تجنيب السكّان كارثة إنسانيّة، وبات نحو من مليون لاجىء قادرين على العودة إلى بيوتهم، كما توقّفت عمليّات التطهير العرقيّ. لقد مهّد تدخّل الناتو لقيام بلد جديد وللسلام في البلقان.
كذلك يقدّم التدخّل البريطاني في سييراليون، عام 2000، مثلاً عمّا يمكن إحرازه عندما يُتّخذ القرار الحاسم في لحظة ملائمة. فإبّان تلك الحرب الأهليّة الوحشيّة، كان متمرّدو «الجبهة الثوريّة المتّحدة» يشنّون حملة رعب وإرهاب ضدّ الحكومة المعتَرَف بها دوليّاً، مستخدمين الجنود الأطفال وأعمال الاغتصاب أدواتٍ في قتالهم. وحين رفضت الجبهة المذكورة اتّفاقيّة السلام وهدّدت العاصمة فريتاون، وفّرت بريطانيا عوناً حيويّاً للحكومة الشرعيّة ولمهمّة حفظ السلام التابعة للأمم المتّحدة. وهذا ما أوقف تقدّم قوّات تلك الجبهة وفتح الباب للسلام.
وهناك الحالات التي لا يؤدّي فيها عدم التدخّل إلاّ إلى نتائج كارثيّة. ففي البوسنة ورواندا، اللتين كانت تجربتهما من عناصر تكوين جو كوكس ووعيها، تخلّفت بريطانيا والمجموعة الدوليّة عن كلّ فعل فيما كان مئات آلاف المدنيّين يُقتلون.
سوريّة والدروس غير المعمول بها
والمُقلق أنّ تلك الدروس جميعاً لم يُستفَد منها في ما خصّ التعامل مع سوريّة، حيث يُقدّر عدد القتلى بنصف مليون سوريّ وعدد المقتلعين بأكثر من مليونين (هذه الأرقام باتت بالطبع قديمة) فيما عدد أكبر منهم بكثير يعاني أوضاعاً لا تُطاق.
لقد اتّخذت المملكة المتّحدة في 2013 قراراً بعدم التدخّل في الحرب الأهليّة السوريّة، بعدما هُزم اقتراح حكوميّ في مجلس العموم. وهذا التصويت، مرفقاً بعدم وفاء الرئيس أوباما بتعهّده حول استخدام الأسد للسلاح الكيماويّ واعتباره «خطّاً أحمر»، رسم للأحداث التالية مسرحها: عدم استقرار إقليميّ وأزمة لاجئين غير مسبوقة ومزيد من المعاناة الإنسانيّة المرعبة وظهور الدولة الإسلاميّة ونموّها. كذلك كان للعطالة الغربيّة أن سمحت للآخرين بملء الفراغ: تورّط روسيا المباشر منذ أيلول 2015، ولا سيّما الدعم الجوّيّ المتواصل الذي قدّمه الرئيس بوتين لنظام الأسد، ما أطال الحرب وضاعف أعداد القتلى إلى أبعد الحدود، وبالأخصّ معاناة سكّان حلب التي لم تكن شيئاً محتّماً.
وكأعضاء في البرلمان، علينا بالطبع أن نستمع إلى المقترعين في دوائرنا، وأن نفكّر في ما يقولون. لكنْ علينا أيضاً أن نقود السجال الوطنيّ وأن نلقي الضوء على النتائج التي لا بدّ أن ترتّبها القرارات المتّخذة. كذلك علينا أن نستخدم خبرتنا ومعرفتنا للتوصّل إلى قرارات تستند إلى معطيات صادقة، حتّى لو كنّا نعلم أنّها قرارات غير شعبيّة. وبدل أن نبدي حساسيّة زائدة حيال التقلّبات القصيرة الأمد في الرأي العامّ، علينا أن نفكّر عميقاً بموقع بريطانيا في العالم وبأمنها المستقبليّ وبالتزامها توفير الحماية للمدنيّين.
فأن نعرّض حياة جنودنا للخطر وأن نتجاوز حدود السيادة الوطنيّة لبلد من البلدان عبر التدخّل، فهذا ربّما كان أكثر القرارات جدّيّة التي سيكون على الحكومات اتّخاذها. إلاّ أنّ الانزواء عن الصراعات المعاصرة قد يولّد من الأخطار ما لا يقلّ هولاً، ممّا يبتدىء بنزوح أعداد ضخمة من السكّان ولا ينتهي بالعنف الذي يُمارَس في أراض لا يحكمها أيّ قانون. وأن نسمح بحدوث المجزرة أو التطهير العرقيّ، وأن نترك هجمات كيماويّة أو بيولوجيّة تمضي على رسلها، فهذا لا يعني إلاّ الإشراف على انهيار متعاظم للمعايير الأخلاقيّة. وأن نغضّ النظر عن عضو دائم العضويّة في مجلس الأمن (روسيا) يتجاهل بصفاقة القواعد الأساسيّة لتلك المنظّمة فذلك أمر أسوأ. ذاك أنّ تصرّفاً كهذا يهدّد بتقويض أسّ النظام الدوليّ الذي حاولت الأمم المتّحدة إنشاءه بعد الحرب العالميّة الثانية، جاعلاً اندلاع المزيد من الصراعات أمراً أكثر ترجيحاً، لا أقلّ. لهذا، ووفقاً للكاتب الرومانيّ فيغيتيوس، إذا ما سعينا إلى السلام كان علينا أن نستعدّ للحرب.
إنّ ما هو مطروح علينا اليوم هو أن نشقّ طريقاً وسطاً بين الإفراط في التدخّل العسكريّ، كما كان الحال في حقبة 9/11، والامتناع عن التدخّل كائناً ما كان الثمن. بهذا نتجنّب المغامرات ولا نتجنّب الدور الأخلاقيّ والسياسيّ الذي ينبغي أن لا نتجنّبه.
*****
وقد يقول قائل إنّ شيئاً غير قليل من خطاب «المحافظين الجدد» مقيم في هذا الخطاب، لا سيّما المواءمة بين المصالح والقيم، فضلاً عن تجاهل التراكيب الداخليّة للمجتمعات التي قد يحصل التدخّل فيها. إلاّ أنّ «الأجندة الخفيّة» التي اتُّهم بها «المحافظون الجدد»، بجرعة رفيعة من التآمريّة، لا يمكن نسبتها إلى جو كوكس التي عارضت بصلابة حرب العراق، وبصلابة أكبر ناهضت سياسات إسرائيل في الأراضي المحتلّة.
فهنا، مع كوكس وأصدقائها، ثمّة محاولة لبناء تصوّر يناقض نهج جورج دبليو بوش بمقدار ما يناقض النهج الذي جاء ردّاً عليه ممثّلاً بباراك أوباما. أمّا على مستوى آخر، فالكرّاس بمثابة الوصيّة التي تركتها تلك السيّدة النبيلة التي قُتلت بوحشيّة، كما قُتلت وصيّتها بوحشيّة من نوع آخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.