يبني الكاتب الليبي بالإنكليزية هشام مطر روايته الثانية، كما الأولى، على حادث اختفاء الأب، ويستبطن آثاره على الابن الطفل في الحالين، ونموه وسط غياب القدوة والسلطة الأبوية، وتشوش المرجعية القيمية والعاطفية الأولى. تجمع «تشريح اختفاء» الصادرة في بريطانيا عن «بنغوين فايكنغ» أدب التشويق وأزمة البلوغ والمتابعة الديكنزية للبطل من الطفولة الى الرشد. وإذ يكتشف هذا الحقائق في نهاية رحلته يواجهها منهكاً، مصدوماً، لكنه يبدأ الالتفات الى هويته والتخلص من الالتباس الوجودي الذي ابتلي به مذ خطف والده. ينشأ نوري محاطاً بالأسرار، لكنه يبدو مطمئناً إلى ثوابت حياته. تنتقل الأسرة الى القاهرة وتعيش في يسر بعد مقتل الملك الشاب في بلاده التي لا يحدّدها حيث عمل الأب الأرستقراطي الثري مستشاراً له. كان نوري، الطفل الوحيد للأسرة، في العاشرة حين توفيت والدته بمرض يبقى غامضاً، وإذ يلتقي منى، المصرية الأب الإنكليزية الأم، في الإسكندرية بعد عامين يذكّره شريط كتفي المايوه الأصفر الذي ارتدته برباط معصم أمه في المستشفى. توقظ الشابة جسد ابن الثانية عشرة، فيتلصّص عليها في الحمام ويغار من والده حين يبدي اهتماماً بها. يتسلّح بكونه رآها أولاً وبوقوفها لجهة السن في الوسط بينهما ليؤكّد حقه فيها، لكنها تتزوج الأب، فيحس الفتى كلما اختليا وضحكا وصمتا أنهما يعذبانه عمداً. لا يشعر الكاتب بضرورة فهم القارئ للشخصيات، وإما أنه لا يوضح شخصية منى قصداً أو أنه يشملها بالمناخ العام الغامض الذي لا يتفق الظاهر فيه بالضرورة مع الحقيقة. يجهل كمال الألفي حقيقة مشاعر نوري نحو زوجته الشابة في حين تدركها هي وتستغلّها. تتسبّب بنفيه الى مدرسة داخلية في الريف الإنكليزي حين تخرج من الحمام عارية الصدر وتطلب منه تسريح شعرها. يراهما الأب ويعاقب الطفل الذي يجد نفسه غريباً لا يستطيع مصادقة إلا أليكس الألماني الغريب مثله الذي يجد عزاء في «الأحلام المبلّلة» وحدها. يشتاق الى منى بقوة ويسألها عن هذه الأحلام، وحين يزوره أبوه يقنعه بشراء معطف فرو ثمين لها، وهو يتمنى أن تعرف أنه صاحب الفكرة. يخطف كمال خلال عطلة في جنيف، وتصاحب النبأ في صحيفة سويسرية صورة امرأة تدعى بياتريس كان معها لدى اختطافه. يحتفظ الابن بكيس وضعت الشرطة أغراض كمال فيه، ويحس حتى شبابه بالذنب لفقدانه الوالد وعجزه عن العثور عليه أو «الحل محله». يرغب بعد لقاء معها بتقبيلها وخنقها في آن، وإذ تعود الى لندن ويلتقيها بعد سنوات تدرك أنها لم تعد تثيره على رغم محاولاتها المكشوفة استرجاع سلطتها عليه. يبدو، في السابعة عشرة، كأنه خرج أقوى من محنة خسارة الوالدين ووحدته الباكرة بإزاء العالم، لكن الحياة تعده بضربات جديدة. يعود الى جنيف بعد إنهائه دراسته ويقصد الشارع الذي تعيش فيه بياتريس، وتخدمه صدفة خارقة حين يجدها في المقهى. لا تقدّم الحقيقة غير أسئلة جديدة، فوالده أحبّ بياتريس حقاً، وتزوّج منى من أجل ابنه بعدما لاحظ انسجاهما. أين تقف والدته بعد الإشارة الى عدم اكتفاء بعض الرجال بامرأة واحدة، وانتقام منى المزدوج من زوجها المخطوف وابنه بمصارحة لئيمة لا تهتم معها بأثر الصدمة الصاعقة على الأخير؟ يبدو الشاب في خطر الاختفاء الأكيد في ظل أبيه المختفي، لكنه يصمد في وجه منى وينفي ادعاءها على رغم شكّه. يتصالح مع الوالد ويتطهّر منه في الرحلة التي يجد نفسه فيها أخيراً. في القاهرة التي تحضن حقيقته، وإن خبيئة، ينام في سرير والده ويستخدم مكتبه، ويرتدي معطفه متسائلاً ما إذا كان سيلائمه إذا عاد. لكن الأب لا يصادر هوية الشاب، إذ إن هذا يعيد المعطف الى مكانه في رمز واضح للانفصال الذي تنتهي الرواية به. تكثر الأسرار المتعلّقة بمرض الأم وعلاقتها بزوجها وسبب كراهيتها صديقه الباريسي طالب، ويثير نوري الدهشة ببقائه «طبيعياً» وسط ما يعرفه وما يجهله. جهله مصير والده يبقيه معلّقاً بين الشك واليقين، ويفتح حياته المضطربة على احتمالين يوجّهها كل منهما في طريق. ترسّخ هشاشة وضعه كابن وعجزه عن بلورته وحدته وانفصاله وتغافله عن حقيقة كبيرة مستجدّة. لا تلغي عودته الى القاهرة رخاوة النسب والتباسه، لكنها تضعه في مواجهة مباشرة معها، أمر يحمل احتمالات القوة والنمو. في التاسع من الشهر الجاري نظمّت مؤسسة عبد المحسن قطان أمسية لهشام مطر قرأ فيها المقطع عن عودة نوري الى جنيف بحثاً عن الحقيقة. أتت والدته من القاهرة خصيصاً لحضور الأمسية، وثبّت في ثنية سترته زراً بألوان العلم الليبي الملكي الذي يحمله الثوار في بلاده. ابتهج الحضور بحس مرح قوي وجاهز يغيب للأسف عن الرواية. حاوره المخرج عمر قطان، وقال في ردّه على الأسئلة إن نوري أسير الماضي يعيش في ظل غياب الوالد، ويعجز عن التقدم أو القيام بوظيفة مثلاً. نفى ارتباط الأحداث السياسية في الرواية ببلد محدّد، وذكر أن موضوع الآباء والأبناء البارز في روايتيه يرتبط دوماً بالماضي والحاضر. لا يضع استراتيجية للكتابة لأنها هدر للوقت، ويبدأ بجملة أو شعور ينطلق منه. «تشريح اختفاء» ولدت من شعور قوي كاد يحس معه بحضور نوري الجسدي. على الكاتب الاختفاء بعد صدور العمل، وما كان يجب أن يحضر ليتحدث عن روايته. «هذا خطأ». الكتابة بالإنكليزية توفّر له المسافة التي يحتاج إليها، ولو كتب الرواية بالعربية كانت اختلفت. لا يفكر بنفسه أو بوالده جاب الله مطر كضحايا «وإذا كنا كذلك فالجميع مثلنا لأن جحيم الطاغية مشترك». ولد هشام مطر (40 سنة) في نيويورك لأب عمل في بعثة ليبيا الديبلوماسية في الأمم المتحدّة. تحوّل الوالد معارضاً وعاش مع أسرته في القاهرة فخطفته عناصر من الاستخبارات المصرية في 1990 وسلّمته الى النظام الليبي حين كان الكاتب في العشرين. يجهل إذا كان حياً أو لا، وفي 2006 أصدر «في بلاد الرجال» التي رشّحت لجائزة بوكر، ونالت ست جوائز دولية، وتناولت الحياة في ليبيا القذافي. في العقد الأخير يئس وضمر كراهية «هادئة ومنحرفة» لشعبه لكن إحساسه زال في التجمعات الليبية التي حضرها ومنحته الشعور بأنه يحب كل ما هو ليبي. يقول إن الأمل ليس شعوراً إيجابياً لأنه ثقيل، وذكر في «ذا تايمز» مع بداية الثورة في ليبيا، وعندما هبط في مطار هيثرو يوماً أدرك الخطر الذي هدّد أباه. سخر منه في الطائرة لأنه صبغ شعره ووضع نظارات سوداء «رهيبة» أثناء العطل في أوروبا، ثم سمع شخصاً في قاعة المطار يسأل آخر: «ما هي هيئة جاب الله مطر؟». أوجعه الاستماع الى كلمة مسجّلة من الوالد في عام 1994 لأن الصدى في الشريط كشف وحدته. الخريف الماضي وقّع 270 كاتباً من بريطانيا والعالم رسالة الى «ذا تايمز» حضّوا فيها الحكومة البريطانية على الاستفادة من صداقتها المستجدّة مع النظام الليبي لمعرفة مصير والده.