منذ بدء الثورات الشعبية في العالم العربي بدأ صراع في عالم الفضائيات، وإن كان لا يشبه في ضراوته وعنفوانه ما يحدث على الأرض، غير أنه يعكس جانباً مما يجري، ويشهد خصومات ومعارك عنيفة وسجالات تعلو نبرتها وتخفت تبعاً لوتيرة الحراك الشعبي هنا وهناك. ولم تعد تقتصر الحروب الفضائية على الانتقاد، والتهجم، والنيل من الأداء الإعلامي وتوجيه الاتهام إلى هذه المحطة أو تلك ب «الخيانة»، أو «العمالة» وسواها من التعابير «المستهلكة». فمع استمرار هذه الأساليب «التقليدية» في الانتقاص من مكانة الفضائيات، ظهرت آلية عملية مبتكرة راحت السلطات «المتضررة» تجتهد في تطبيقها، وتتمثل في التشويش على الفضائيات، خصوصاً تلك الباقات التي تضم محطات إخبارية «مشاغبة»، فيؤثر التشويش في محطات أخرى غير مستهدفة، ليعيش المشاهد العربي فوضى إعلامية تجبره على البحث عن ترددات جديدة تعيد إليه محطته «المستلبة». بدأت حكاية التشويش من تونس، وامتدت إلى مصر، فليبيا التي تسعى الى التشويش على المحطات الإخبارية، وخصوصاً قناة «الجزيرة» التي تعرّض فريقها، لمكمن قرب مدينة بنغازي الليبية أسفر عن استشهاد علي الجابر مدير التصوير في القناة، ما يعني أن «السلطات القامعة» تضيق بالمحطات الفضائية، ولا تتوانى حتى عن «الاغتيال» في سبيل إسكات صوتها. مفردة «التشويش» دخلت قاموس الفضائيات حديثاً، وهي تبرهن أن الفضائيات، وإنْ نأت بنفسها عن أن تكون طرفاً في النزاع، قادرة على نقل الحقائق ودحض ادعاءات الإعلام الرسمي الذي أثبت فشله الذريع في الأحداث التي تشهدها المنطقة العربية. وهذا يعيدنا إلى الصورة وقيمتها التي تضاهي في بلاغتها ودلالتها صفحات مطولة من الشعارات. صور الجموع الغاضبة التي تملأ الشاشات تفند «الأكاذيب الرسمية» المنمقة، ويبدو أن السلطات أدركت هذه الحقيقة لكنها عجزت عن مواجهة هذا الأداء الإعلامي المهني بإعلام موازٍ ومماثل، فلجأت إلى أساليب السب والشتم، والى آليات تكنولوجية تشبه عمليات القرصنة مثل التشويش، بل هي تجند قناصة لاستهداف ممثلي «مهنة المتاعب» ومندوبيها. ولحسن الحظ أن ثمة حلولاً تكنولوجية لمعضلة التشويش، فما إن يختفي بث إحدى القنوات هنا حتى يظهر هناك، بل إن محطات مؤيدة للقناة التي تتعرض للتشويش تبث مواد القناة المشوشة على شاشتها، ومثل هذا الإجراء، بحد ذاته، يكرس لمفهوم «التعاون الإعلامي» الذي فشلت في تحقيقه وزارات الإعلام العربية، فتحقق افتراضياً في فضاءات البث العربي الذي يعكس انقسامات وتناقضات تعبر، تماماً، عن الحال في العالم العربي. محطات قليلة تسلم من الإغراء «الرسمي» لتساهم في صنع الثورات عبر التشبث ب «فضيلة البحث عن الحقيقة» غير آبهة ب «سدنة التشويش».