المحامي المسكين، هو نقيض الضابط الذي يواجهه بلا سلاح، يعجز عن الدفاع عن الفتاة البريئة المحاصرة بحديد قفص الاتهام، غير قادر على الانتصار، مثلما يفعل المحامون عن كتاب شهرزاد الذين يجدون من الأدلة والعلماء، ما يثبت زيف محضر الضبط الذي كتبه الضابط و «فبركه» وليسوا أقل قوة في دحض كل ما يستند إليه ممثل النيابة في دعواه الخائبة التي تدفعه إلى المطالبة بحرق الكتاب، فمن سوء حظ المحامي المسكين أن المحكمة انتدبته للدفاع عن «غزلان» التي هو متأكد مئة في المئة من براءتها، فقد عرف ذلك من سؤاله شهود الإثبات الكاذبين جميعاً، فيما عرف منهم ولكن المتهمة تأبى الرد عليه، ولا تعينه بالكلمة، فهي متلفعة بالصمت الغريب كجمال وجهها الساحر البريء، وقد انتهت كل محاولاته لحثها على الكلام إلى الفشل، فقد ظلت تنأى عنه بصمتها، وأضاعت كل ما كان يحلم به من أن يكون صاحب رسالة، فالمحاماة رسالة مهمتها إنقاذ المظلومين، وهو واثق أن غزلان بريئة، ولكن كيف ينقذها، ويحقق رسالته التي تقوم على نصرة الحق على الباطل، والحق الذي يراه مجسداً في غزلان، صامت لا ينطق أمامه، لعلها لا تحسن به الظن وترى فيه وجها آخر للبشر الحيوانات الذين أرادوا نهش حلمها وعرضها، ولكنها نجحت في الحفاظ على نقائها بأن استبدلت بقفص الاتهام قفص الصمت، لعلها كانت مدركة أن الصمت أبلغ من الكلام أحياناً وصمتها ينقل رسالتها السرية إلى المحامي الذي صار لديه يقين لا يقبل الشك ببراءتها، وذلك بقدر ما آمن بزيف صراخ رئيس النيابة الذي طالب بحرق الكتاب الجميل في ميدان عام وبدا لعيني المحامي، وهو ينطق الكلمات، متشدقاً بها، كأنه يفكر في المجد القادم، ويتخيل في ذهنه مكتب النائب العام وليس أقل... أما الضابط الذي جمع التحريات عن الكتاب، كما جمع التحريات عن غزلان، فقد جاء إلى المحكمة مرتدياً بدلة ملكي، والضباط يفعلون هذا عندما يفكرون في المناصب العليا والكتاب من حيث هو أوراق لجأ إلى بلاغة الصمت التي استنفرت من يدافع عنه، ويهز الدنيا كلها من أجل حمايته، على رغم صمته الذي يبدو سخرية من زعيق النيابة المطالبة بحرقه في ميدان عام، غير مدركة أن الحرائق تقف خلف الأبواب في انتظار أن يندلع الحريق الذي منه سيبدأ الاشتعال العام ونترك صفحات القسم الخاص بالمحامي الذي عرف الحقيقة، لكنه لا يستطيع النطق بها ولا الدفاع عنها، فهو أعجز ما يكون عن ذلك لضعف داخلي متعدد الأسباب، متأصل فيه، إلى القاضى الذي أدرك بلاغة صمت غزلان، فقرر أن يجاوب صمتها بمثله، متخيلاً أنها كروان جاء في حلم له، قبل صحوه، كروان نقش صفحة الفجر بصوته الجميل، وملأ الهدوء بنبراته، تلك التي لا يرد عليها أحد، وهكذا جاء المعنى المقصود من بلاغة صمتها، فأدرك أنها كائنة مختلفة تماماً، لكنه لا يستطيع الحكم عليها سلباً أو إيجاباً، لأن بلاغة صمتها لا تصل إلى سواه، فكان أميل إلى براءتها ولكن كيف؟ فبلاغة صمتها لا يسمعها غيره، وهي لا تصلح وحدها دافعاً للحكم على البراءة، ولكنه لا يستطيع الحكم عليها بالإدانة، وهو متأكد من براءتها، فلم يكن يستطيع سوى كتابة طلب بالتنحي عن نظر قضية غزلان وإحالتها إلى دائرة أخرى. ولكن عجزه إزاء غزلان جعله أكثر إصراراً على الحكم بالإيجاب في مثيلتها، شهرزاد الطالعة من صفحات ألف ليلة، لكنها قادرة على النطق، وتحويل القص إلى حياة، فتح آفاق المعرفة بلا حدود أمام قاضيها شهريار الذي أصبح أسيراً لها، خصوصاً بعد أن أخرجه سحر القص من صورته الحيوانية إلى صورته الإنسانية، وأخرج القاضى من وضع السلب إزاء غزلان إلى وضع الإيجاب إزاء كتابها، فأدرك أنه إزاء «كتاب يسكن تلافيف العقل الجماعي لأمته، مطلوب منه أن يحكم بمصادرته، لأنه أطلت من بين صفحاته فاتنة جاءت معجونة من النور والنار والماء والوهج والرغبات المجنونة». إلى أين يحاول المجانين شد الديار؟! إلى أي زمان سحيق، وإلى أي أمكنة مظلمة، يحاولون أخذ الجميع؟ كان ممثل الادعاء رئيس نيابة الآداب قد انتفخت عروق رقبته، وهو يطالب بحرق مخلوقته الجميلة... مخلوقة الدهشة والحنين والأسطر والأحرف والكلمات المحلقة في عوالم الخيال في ميدان عام. كانت محكمة أول درجة قد حكمت على الكتاب بالمصادرة، وبعد أن عانق القضية أكثر من ليلة، وجرى وراء أحرف الكلمات، وحلّق مع الحكايات، وسبح في بحار الليالى المدهشة، ألغى الحكم الأول في سطر واحد. شعر براحة لم تتسلل إلى حياته من قبل قط بعد أن وصل إلى قراره كأنه هو الذي أبدع هذه الفاتنة الساحرة التي حاولوا إحراقها، في ميدان عام. كان الحكم قد أصبح جاهزاً... قال له أحد أعضاء المحكمة: - ستقوم الدنيا. أكمل العضو الآخر: - ولن تقعد بعد النطق بهذا الحكم. جفف عرقه، تذوق من جديد متعة الفن الجميل، ورأى رحابة العوالم اللانهائية، كتاب ليست له صفحة أولى، ولا صفحة أخيرة من المستحيل أن يدعي بشر أنه قرأه من الجلدة الأولى حتى الجلدة الأخيرة. صفحاته ليست لها أرقام، يسكنه بشر لا يعرف أحدهم الآخر لو وافق على حرقه، لأنهى دخان حريق الحياة البشرية على الكوكب الأرضي قد يتحول بناسه وحيواناته وطيوره الجميلة وأشيائه وأرضه وسمائه وهوائه إلى كتلة من الفحم الأسود من يدريه؟ ربما امتد الدمار إلى كواكب أخرى... نظر إلى العضو الذي يجلس على يمينه، ثم حدّق في العضو الذي يجلس على يساره: - «إنقاذ بر مصر يساوي». هكذا، يخرج القاضي من المحكمة راضي الضمير، فهو لم يقبل ظلم البريئة غزلان بالحكم ضدها لأنه لم يجد في صمتها ما يستند إليه، وحكم بالبراءة على موازيها الرمزي لأنها أحالت الصمت إلى كلام، والظلم إلى عدل، والقبح إلى جمال، والكراهية إلى حب، والموت إلى حياة، وفي الوقت نفسه، كان القاضى مدركاً أن الاستجابة إلى طلب رئيس النيابة بإحراقها سوف يكون بداية إشعال الوطن بنيران التعصب التي تنتهى إلى تدميره، ومضى مستريح الضمير إلى حيث القطار الذي يعود به إلى مدينته الصغيرة، بنها، وما إن جلس في القطار الذي يرى من وراء زجاجه خضرة الحقول، حتى جاءته فاتنة الكتاب الخالد التي أنقذها بحكمه من الحرق في ميدان عام لحظة النجاة كانت هي نفسها لحظة فقدها لكنه تذكر أنه عندما تأمل وجه غزلان، كان لديه يقين لا يعرف مصدره، أنها نفس الأنثى المدهشة الخارجة من رقيعات الكتاب ورحم الأسطر والإدراك المباغت أن حياته كانت يابسة مثل الأرض الشراقى التي تعاني من الجفاف، وأن كلا الوجهين اللذين اندمجا في وجه واحد، أصبحا قارب نجاة يلوح له، ويقوده إلى عالم جديد بهيج، حتى لو على امتداد الخيال الذي يستجيب إلى مبدأ الرغبة لا الواقع وكان القطار يجري على قضبانه كالحلم، والمغيب القريب ينثر سمرة هادئة، لم توقف جناح طائر أخضر المنقار، حطّ على زجاج النافذة كما لو كان يؤنسه ويحييه. أما المؤلف - الكاتب يوسف القعيد الذي قضى السنوات الأربعين الأولى من عمره في انتظار الإنصاف المستحيل، فإنه أدرك أنه لا يزال ناصرياً في زمن هجر فيه الجميع الناصرية، وأنه لم يفارق - كالقاضى - المساكن الشعبية التي بناها عبدالناصر، وأنه سيظل يبحث عن غزلان التي رأى فيها الحقيقة الضائعة والسراب التائه في عالم قاس ضنين، عالم لن يظهره إلا طوفان يغسله تماماً من كل أدرانه، فيعود إلى ما يحقق الحلم القديم والمستحيل في آن، فهل يحدث ذلك، ونرى عالمنا منبثقاً من الجدب إلى الخصب، كأنه غزلان التي تظل حلماً تنطوى عليه نفس لا تكف عن مقاومة عجزها ولعلها تنتصر في معركتها. الطريف أن الرواية لا تمضي حسب عنوانها الموحي... صحيح أن ما يجمع بين غزلان وشهرزاد هو تشبيه الكروان، ذلك الطائر المغرد الذي يختص به ريف مصر، واكتشف العقاد خصوصيته المصرية في الثلاثينات، فجعله عنوان ديوان كامل «هدية الكروان» ذلك الذي نسمعه دائماً في الهزيع الأخير من الليل، أو في هدأته، حيث يترجع صوته بما توهمه الوجدان الشعبي نوعاً من تكرار «الحمد» ومضى في إثره طه حسين في روايته دعاء الكروان الذي كان أنيس «هنادي» بطلة الرواية في لحظات توحده، بما جعله علامة على حضورها، تماماً كما جعل يوسف القعيد من الكروان قرين غزلان وشهرزاد اللذين هما اثنان على مستوى التخييل، واحد على مستوى التحقيق، أقول رغم أن العنوان يشير إلى دفاع الكروان، فنحن لا نسمع إلى الكروان المشبه به، ولا حتى إلى المشبّه، فالمؤلف الذي يستبطن الأحداث والشخصيات ليس مؤلفاً مضمراً كالعادة، وإنما هو مؤلف معلن، والقاضى الذي يستبطن المؤلف أعماقه، متخيلاً إياها في المدى الذي يبيحه الخيال، نعرف ملامح حقيقية له في القص، فهو رجل بسيط، لا يقدر على إيجاد سكن في القاهرة، ولا يحتمل المبالغ الطائلة لما أطلق عليه «خلو الرجل» أو التمليك، فقنع بالسكنى في بندر بنها، الذي يسكن حي المساكن الشعبية فيه، شاغلاً شقة صغيرة مكونة من حجرتين وصالة، ولا يملك سيارة وقد تجلت نزاهته واستنارته في الحكم الذي أصدره على «ألف ليلة وليلة» التي كانت قد تمت مصادرتها فعلاً، وحكم عليها بالمصادرة وتغريم موزعيها وطابعيها على امتداد أربع قضايا، شغلت الرأى العام سنة 1985، وأهاجت غضب المثقفين الذين هبوا للدفاع عنها وقد شغلت القضايا يوسف القعيد بوصفه عاشقاً قديماً لألف ليلة وليلة التي عرفها صغيراً في قريته «الضهرية» ولم تنقطع صلته بها، فظلت كنزه الروائي الحريص على جمع كل طبعاته، وقراءتها، والبحث فيها عما يظل في حاجة إلى الكشف من عالمها اللامحدود الذي فتن الغرب والشرق ولذلك ظل متابعاً المحاكمة الأخيرة التي كانت بمثابة الذروة التي أوصلته إلى قمة الفرحة بنجاة كتابه الأثير، ولم يتردد في إظهار حماسته البالغة للقاضي الذي حكم، والذي لم يتركه إلا بعد أن أجرى معه حواراً، نشره في مجلة «المصور»، كاشفاً للقراء عن نموذج نادر لقاض مصري نزيه، قدم لنا حياته وكفاحه، حريصاً على أن يشركنا معه في الاحتفاء بقيمة هذا القاضي الجليل الذي يستحق التقدير... ومن المؤكد أن الحكم الذي أصدره هذا القاضي في شهر كانون الثاني (يناير) سنة 1966، وملابسات المتابعة القلقة على مصير ألف ليلة التي ارتبطت بمصير الوطن، بعد أن أخذت خفافيش الظلام في السيطرة عليه، هي التي دفعت يوسف إلى كتابة حواره الصحافي مع القاضي بعد إعلان الحكم مباشرة، وإلى تنمية الرغبة في الدفاع عن ألف ليلة وليلة التي دخلت قفص الاتهام، في نوع من القص الذي يمزج بين الواقع والخيال، ويكشف عن العام من خلال الخاص، لكن مع كشف المستور وهكذا تنامى دافع قص الرواية التي اكتملت كتابتها في تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 وقد كان يوسف كريماً معي، بعد أن علم رغبتي في معاودة الكتابة عن قضايا ألف ليلة، فأعطاني حصراً بها، ونسخة خطية من حواره مع المؤلف الذي استقى منه كل المعلومات التي وظفها في القصة.