في معزل عمن كان أول مَن فكّر في التخلص من صورة «شهرزاد» وأثرها على شخصية المرأة العربية، لا بد من التحذير من أن قتل «شهرزاد» مجزرة جماعية تروح ضحيتها آلاف الشخصيات التي تحفل بها حكايات «ألف ليلة وليلة»، من دون أن ننسى اغتيالَ ما لا يحصى من آراء النقاد والدارسين والروائيين والشعراء والسينمائيين، الذين رأوا في هذه الليالي العربية نبعاً لا تزال تستقي منه مخيلة الإبداع العالمي. ولعل كلمات الروائية حنان الشيخ في اللقاء معها خلال معرض الكتاب الفرنكوفوني، تؤكد بأن سوء فهم كبيراً لاحق «شهرزاد»، سببه عدم قراءة الليالي كاملة، فلقد اعترفت الروائية اللبنانية بأنها في البداية كانت تكره «شهرزاد» وتعتبرها «كليشيه»، إلى أن قرأت «ألف ليلة وليلة» كاملة، واكتشفت أن «شهرزاد» كاتبة مهمة وقارئة، استطاعت أن تجعل الملك إنسانًا. وعلى الأرجح ينسحب هذا السبب، أي عدم قراءة الليالي كاملة، على أكثر الذين كتبوا عن شخصية «شهرزاد» فلم يروا فيها سوى المرأة التي تريد إنقاذ حياتها بأي ثمن، لا القارئة النهمة والروائية التي تُحْسِن توليد الحكايات من رحم خيالها الخصب. تدين السينما الأميركية لليالي العربية بكثير من موضوعاتها، وخصوصاً تلك التي تدور حول أمور الفضاء وأعماق البحار والسفر والمغامرات والسحر والخيال العلمي والقوى الخارقة، فضلاً عن تصوير عالمَي الفقر والغنى وحكايات الحب والغدر والخيانة. صحيح أن هوليوود لم تعترف دائماً بفضل الليالي على إنتاجاتها، غير أن عاصمة السينما اعترفت في أكثر من فيلم ب«شهرزاد» المرأة المثقفة والذكية، ففي أحد الأفلام التي تناولت شخصية هذه المرأة، نراها تتسلل من القصر عند الصباح، لتقصد «حكواتياً» يقيم في خيمته في ساحة المدينة. وفي هذه الخيمة /المدرسة/ نرى الرجل الحكيم يصحح للمرأة الأخطاء التي ارتكبتها في عملية السرد التي قامت بها الليلة الماضية، ويعلمها تقنيات القص لسرد الحكاية الجديدة، كما ينصحها بقراءة كتب تتناول شتى المواضيع، فهذه ال«شهرزاد» إذاً امرأة تريد، بواسطة الأناة والشغف اللذين هما من جوهر الحكايات، أن تنقذ نفسها والنساء، وكذلك الرجل الذي يمثله «شهريار»، وهي في ذلك تشبه أمهاتنا وجداتنا، اللواتي كن حين تضيق بهن الحياة، يلجأن إلى الحكاية يخففن بها عن الأولاد والأحفاد، وعلى مسمع من الرجال، قسوةَ الحزن والوحدة والفقر. وهو ما اختصره غابريال غارسيا ماركيز بقوله «فضيلة القص المباركة» التي سيطرت على نزعة الشر من نفس «شهريار». المرأة الحكواتية غير أن هذه المعالجة السينمائية الفريدة لا تعني أن الغرب لم يصور بطلة الليالي امرأة شهوات ورغبات، ما دفع كثير من النقاد والروائيين إلى التصدي لهذه الصورة بغية تصحيحها، ومنهم فاطمة المرنيسي، الكاتبة وعالمة الاجتماع المغربية، حين أكدت على تقدم الذكاء على الجمال في معالجة شخصية المرأة الحكواتية، بل تذهب إلى أبعد من ذلك في كتابها «شهرزاد ترحل إلى الغرب»، حين تقيم مقارنة بين نظرة الغرب المحتقِرة إلى المرأة (كما تبدو في الآداب والفنون)، في مقابل قبول الشرق بامرأة ذكية تمسك ببراعة بمفهومَي الأدب والفن، وبعلمها وثقافتها تنقذ نفسها وبنات جنسها وتكتسح مخيلة العالم، وهي بذلك، أي المرنيسي، قتلت «شهرزاد» التي صنعها بعض الغربيين لا «شهرزاد» نا الحقيقية، العربية، إيماناً منها بأن الجنس قد يقتل رغبة القتل في نفس «شهريار» لليلة أو ليلتين لكن ليس لألف ليلة وليلة (وهو رقم يعني لانهائية الوقت)، في حين أن العلم الذي يتحصل بالمعرفة، أكانت عبر الحكايات الشفهية أو القصص المكتوبة، يستطيع اجتراح المعجزات. ولا تخفى على أي مطَّلع علاقةُ كبار الروائيين بعالم «ألف ليلة وليلة»، ولعل خورخي لويس بورخس أكثرَهم اعترافًا بفضل الحكايات على أدبه، فوصف في حديث مع الكاتبة الأرجنتينية ربينا روفيه، «ألف ليلة وليلة» بالكتاب الرائع والجميل الذي ترك فيه أثراً كبيراً، مشيراً إلى أن كثيرين من المثقفين العرب لم يطَّلعوا على الكتاب، لا في نسخته الجريئة ولا في نسخته المهذبة. هذه العلاقة بين الكاتب الأرجنتيني وعالم «ألف ليلة وليلة»، استحقت من الكاتب اللبناني عيسى مخلوف تخصيصَها بقراءة تحليلية في كتاب بعنوان: «الأحلام المشرقية - بورخس في متاهات ألف ليلة وليلة»، ومما نقرأه على الغلاف الخارجي للكتاب: «... وإذا كانت ثقافة بورخس تتسم بانفتاحها على ثقافات الشعوب كلها، وهذا ما يُكسبها طابعها العالمي، فإن الموروث العربي، ومن ضمنه «ألف ليلة وليلة»، يحتل حيزاً بارزاً في هذه الثقافة. أما التقارب بين بورخس وذلك الموروث، فهو تقارب على مستوى الإبداع والجماليات...». وفي رأي لا يقل حزماً عن رأي بورخس، كتب الشاعر اللبناني أنسي الحاج في مقالة بعنوان «حياة من كتب»: «ليس في العربية كتاب أجمل من «ألف ليلة وليلة»»، وكان الشاعر في مقالة سابقة (بين الهواء والطير)، تحدث عن الرشاقة في الأدب،وهي صفة الأثيريين ومن شيم الرقص والذوق والموسيقى الطائرة، ورأى أن العرب عرفوها في كتابَي «الأغاني» و«ألف ليلة وليلة»، وهو ما ذهب إلى ما يشبهه الشاعر عقل العويط، حين كتب في عدد خاص من «ملحق النهار» عن العراق: «يريد أن يحول (أي صدام حسين) بلاد «ألف ليلة وليلة» الى بلاد الليل الذي لا حلم فيه ولا «شهرزاد» على شرفة مناماته» (16 شباط 2003). وإن كان عقل تراجع عن موقفه حين كتب «في مديح عدم الاكتفاء»: «يكفيني أن امرأة قتلت «شهرزاد» وقتلتني». فهل يجوز قتل المرأة التي استطاعت أن تحقق كل ذلك، وألهمت الأخوين رحباني فكتبا: «أنا شهرزاد الحكاية»؟ أما الروائي اللبناني الياس خوري، فلا يتردد في التأكيد على أنه في غالبية رواياته يرتكز على ثلاثة عناصر: الكاتب المكشوف الذي هو جزء من العمل، والشفهي الذي يدخل في الكتابة فيحولها ويتحول، والانطلاق من التجربة المدهشة ل«ألف ليلة وليلة»، حيث تتوالد الحكايات ليس في متاهة بل في نسق يشبه «الأرابسك». وتطل «شهرزاد» في كلامه حين يقول للشاعرة عناية جابر في معرض حديثه عن ميليا بطلة روايته «كأنها نائمة»: «عندما تصمت المرأة يكون المجتمع أخرس» (صحيفة السفير، 2007). وحماسة خوري لحكايات الليالي معروفة، لا يتأخر عن الاعتراف بها والدفاع عنها في المحافل الأدبية، فهو اعتبر في إحدى ندوات معرض فرانكفورت للكتاب، وخلال مؤتمر عن «ألف ليلة وليلة»، أن الكتاب مفتوح نستمر في تأليف قصصه والإضافة إليه. فهل يمكن الفصل بين هذا الكتاب المفتوح على مزيد من القصص والمرأة التي أنجبته؟ علماً أن الياس خوري يستعين بكلمات من هذا الكتاب كأنه يحفظه غيباً، فيقول في مقالته عن موت مايكل جاكسون: «مايكل جاكسون رمز افترسه خالقوه، فالسلطة والشهرة والمال لا تشبع أو ترتوي إلا بالموت، الذي أسمته «شهرزاد» هادم اللذات». جواهر وخزائن ولعل الناقد المصري جابر عصفور اختصر الكثير من الكلام حين تحدث عن «شهرزاد» صانعة الحكايات التي تُكتب بماء الذهب وتُحفظ في خزائن الملوك الجواهر، أو تُدون في السجلات لأجل أن يطلع عليها الخلف فيعرف أخبار السلف، أو يسعى إليها الساعون في البلدان المختلفة، لينسخوها بأدق ما يستطيعون، كي يعودوا بها هدية إلى ملوكهم، الذين يحفظونها في خزائنهم ليطالعها من يبحث عن الحكمة المتجددة في الزمان والمكان. ويلفت إلى ناحية في منتهى الأهمية، حين يبين أن «الليالي» إنتاج مديني بامتياز، فيقول: «شهرزاد هي ابنة المدينة في أصل التسمية (في الفارسية)... والزمن الذي يتحرك فيه الجميع هو زمن المدينة... في أفق الحكايات المفتوح كالسؤال. هذا الأفق هو مهاد الجدارية الهائلة التي تتصدرها شهرزاد بصفتها أمثولة المرأة الجديدة التي تدين بوجودها إلى المدينة، والتي تمسك بيمينها القلم علامة على هذا الوجود. وتحفظ في ذاكرتها ما يصلها بميراث مدينة الإنسانية». لا يمكن إذاً أمام الدعوة إلى قتل «شهرزاد» إلا استعادة دعوات سابقة طالبت بحرق «ألف ليلة وليلة» لأنها إباحية تسيء إلى الدين والأخلاق. ولا يمكن إلا التخوف من انسحابها على آراء ومواقف قد يخطر لها أن تدعو إلى «قتل» أم كلثوم لأنها استغلت صوتها للتأثير على الرجال، وفيروز لأنها امرأة خضعت ل «سلطة» الأخوين رحباني الذكورية، وصباح لأنها امرأة مزواج، فضلاً عن أن قتل بطلة الليالي يعني قتلَ الحلم والخيال والذكاء، واغتيالاً لعلاء الدين والسندباد والصياد، الذي أخضع المارد وعلي بابا ودليلة المحتالة وعلي الزيبق... وغيرها من شخصيات موزعة على مختلف طبقات المجتمع. وهذه جريمة يسكت عنها النقاد، بل يذهب أكثرهم إلى التغني بشجاعة مرتكبيها.