الثورة لم تصل بعد إلى «أطفيح»، تلك هي القناعة التي خرج بها الوفد المشكل من قيادات سياسية شاركت في الثورة، بعد أن زار القرية التي فجرت الفتنة الطائفية الأسبوع الماضي. لقد استقبلهم هناك وجهاء القرية من أعضاء الحزب الوطني، ولم يستمع أحد من أبنائهم لكلمة من الوفد حتى وصل الداعية السلفي محمد حسان إلى المنصة، حيث كاد الفقراء أن يتبركوا بجلبابه. تلخصت مشكلة الأهالي الساكنين على بعد 45 دقيقة من وسط العاصمة، في أن الكنيسة احتوت على «أحجبة» و«أعمال سحرية» أوقفت أرزاقهم وحياتهم الجنسية، وأن لا بناء لكنيسة السحر الأسود في حدود قريتهم مرة أخرى. نحن إذاً أمام نموذج لإمكانات الثورة المضادة الخامدة: سيطرة للنظام القديم في وسط عشائري، فقر وجهل قياسي هما النتاج الطبيعي لحكم الرئيس مبارك، يخيم عليه نفوذ سلفي شعبوي. هكذا تتشكل زاوية القوى العائدة للانقضاض على المشهد الثوري في مصر، وهذا المركّب الديني الاجتماعي الاقتصادي هو ما سيتحكم فعلياً في عضوية أي مجلس شعب مقبل في انتخابات برلمانية. هذا إذاً ما قدر حتى لأسوأ السيناريوات النجاح. لكن، هل يعني ذلك إحباطاً للقوى الثورية؟ لا بالعكس، هذا تحديداً ما يفرض على أبناء الثورة جدول أعمال طويل المدى بأهداف تكتيكية محددة، أولها مقاطعة التعديلات الدستورية التي حدد التصويت عليها مطلع الأسبوع المقبل، وهي مقاطعة لا بد من أن ترتبط بمشهد سياسي احتجاجي. ثم حتى هذا الموعد، لا بد من إعادة تكتيل الفئة الحاضنة للثورة حول إجماع وطني ضد الطائفية، يرقى إلى مستوى الفاعلية السياسية والضغط على حكومة عصام شرف والمجلس العسكري على قاعدة أن التحريض الطائفي جريمة وطنية مغلّظة العقوبة، ثم الانطلاق فوراً نحو هيكلة المرحلة الانتقالية كالآتي: جمعية وطنية تأسيسية من 50 شخصاً لمناقشة دستور دائم للبلاد، وصياغته من خلال لجنة قانونية خلال ستة أشهر؛ مجلس رئاسي مدني مع شخص عسكري إلى جانب حكومة شرف. يضمن هذا التكوين الثلاثي الرأس انتخابات رئاسية خلال مدة لا تزيد على السنة وأخرى تشريعية في حدود السنة ونصف السنة، بحيث يضمن هذا البرنامج مواجهة مجموعة أخطار محددة: الأول، بقاء تشوهات التعديلات الدستورية المدعو إلى التصويت عليها في بنية الرئاسة المقبلة، والثاني، قطع الطريق على القوى المضادة للثورة من السيطرة على برلمان من دون أحزاب منافسة قوية، أما الثالث فتطهير الثنايا النشطة للثورة المضادة في الإعلام والصحافة والجهاز التنفيذي عبر آلية تخرجهم إلى علن المحاسبة بدلاً من الاستسلام لحربهم الخاطفة. وأخيراً، تكريس فكرة مؤسسية للتحول الديموقراطي القائم على الجماهير لا على استبعادهم كقطيع يجرى تمثيله وفقاً للقواعد التسلطية. لقد اتبع النظام السابق تكنيك «هندسة الفراغ» بحيث يكسب وجوده الذي لا يزيد عن فقاعة فارغة سميت الحقيقة، وقد أثبتت الثورة أن ما خلف القشرة الأمنية خواء مطبقاً. وتلعب الآن على فكرة «هندسة الخراب»، بقايا جهازه الأمني وميليشيا البلطجية والسلفيون، وهم آخر الأوراق الحارقة التي تضع الثورة أمام اختبار عرقلة المسيرة. ومع ضرورة مواجهة آنية لهذه الفلول، هناك مهمة أخرى، هي أن نثبت للجميع أن هذه الثورة هي التي ستنقذ مصر، عبر خطوات دعم حكومة شرف لتحسين الوضع الأمني والمعيشي، وعبر الإجماع على المحاسبة القانونية على رغم تباطؤها، وأخيراً رفع البرنامج الانتقالي للسلطة كهدف رئيس. لقد أفرزت الثورة ثلاث قوى رئيسة، هي أضعف من أن تحسم الصراع وحدها، فلا النظام السابق قادر على ما يتجاوز حربه الاستنزافية، ولا المجلس العسكري قادر على الرد على الثورة أو حسم تحالفه الأبدي معها، ولا الثورة قادرة على توجيه ضربة قاضية للجميع بفعل جسدها الضخم وعقلها الجمعي الذي يواجه خراباً معمماً. أما التحالف البيني المشروط بين الثورة والجيش، والذي ينجز يومياً بعض المهمات، فتعضد صلاته وتقل مساحات الشك فيه، ولا بد من الدفاع عنه من دون تسليم مطلق. هنا تتحول الثورة التي بدأت من الميادين إلى عملية سياسية مستمرة، قوامها تجفيف الغابات الخلفية للمجتمع من أوكار الثورة المضادة، وتقديم تصور جديد لمصر ما بعد خراب مبارك. ولا بد في لحظة بلوغ ثورتنا شهرها الثاني من التأكيد أن حجم إنجاز مهماتها، وفقاً لخراب مخلفات النظام، يعد إنجازاً رائعاً، فقد سقط مبارك بما يمثله من رأس لهذا النظام، كما سقط جهازه الأمني والحزبي والدولتي، لكن حجم انبثاثه في بنية المجتمع لا يزال كارثياً، وهو انبثاث يعتمد على أسوأ ما في نسخ الأنظمة التسلطية من أبوية وذكورية وتآمرية. من كان منا يتخيل أن الثورة حققت طموحها بإسقاط مبارك فهو واهم، فنحن أمام مهمة طويلة المدى، ورهان الوقت يلعب في مصلحة الثورة بمعادلة تصاعدية، فمنذ أسبوع كان لغز بقاء صفوت الشريف (رجل النظام القوي) من دون إدانة حتى الآن لغزاً فاعلاً، لكن لجنة تقصي حقائق ما حدث في الأربعاء الدامي دانته كمخطط رئيس لاعتداء الجِمال والبهائم. ثم أتى خبر آخر عن دور فتحي سرور رئيس مجلس الشعب في استئجاره بلطجية لقتل أقباط منشية ناصر، وقد جاء مكملاً لإدانة رؤوس مهمة في بقايا النظام السياسي، ليؤكد أن حجم فساد هذا النظام، على رغم حرق المستندات، يبقى كبيراً وعصياً على الطمس. وفي كل يوم تشرق على الثورة شمس جديدة يتأكد أن إمكانية العودة الى الخلف تتقلص، طالما هناك وعي واحتراز لا يلينان وجدول أعمال واضح لا تؤثر فيه سحابات المرحلة الرمادية.