إنه لمذهلٌ البحث الذي وضعته المؤرّخة اللبنانية آن ماري إدّه بعنوان «صلاح الدين» وصدر حديثاً لدى دار Flammarion الباريسية. ففي كتاب يتعدّى 750 صفحة، تحاول الباحثة، انطلاقاً من مراجع تاريخية وأدبية مختلفة، تفسير شعبية صلاح الدين وتحديد شخصيّته. وفي سعيها الدؤوب لفرز ما ينتمي إلى المخيّلة وما ينتمي إلى الواقع في صورة هذا الرجل، تعمد إلى إسقاطه في شكل ثابت داخل الزمن الذي عاش فيه وإلى كشف الأسباب والظروف الشخصية والاجتماعية التي تقف خلف مساره الساطع والفريد. وقبل الانطلاق في بحثها، تتوقف إدّه أوّلاً عند صورة صلاح الدين شرقاً وغرباً لتلاحظ أنه يُعتبر في الشرق محرِّر القدس، أي المدينة التي لا تزال موئل الديانات السماوية الثلاث، والقائد الذي نجح في دحر الغربيين وفي إعادة توحيد قسم كبير من العالم الإسلامي، الأمر الذي يفسّر شعبيّته الكبيرة في منطقة لا تزال «عبادة» الأبطال فيها حاضرة بقوة. أما تحوّله إلى أيقونة حقيقية، خلال القرن العشرين، حجبت وجوهاً إسلامية كبيرة من الماضي، فيعود إلى أسباب عدّة أبرزها مواجهة العالم العربي فشل توحيده، الاستعمار الأوروبي، تأسيس دولة إسرائيل وضم القدس إليها، إضافة إلى التدخّلات والعمليات الأميركية في المنطقة. وفي الغرب، يتبيّن للباحثة أن صلاح الدين هو من الشخصيات الإسلامية النادرة، التي ما زالت حيّة في نفوس الناس. فاسمه يرتبط غالباً بالحروب الصليبية وبروح الفروسية والكرم واحترام الخصم، وصورته الرائجة منذ القرون الوسطى في روايات وأغان مختلفة ما برحت تتطوّر وفقاً للظروف التاريخية. فخلال عصر الأنوار، صنّفه كتّاب بحجم فولتير وليسّينغ في خانة الحاكم المنوَّر والمتسامح والمنفتح على كل الديانات. ولعله اليوم الشخصية الإسلامية الوحيدة في التاريخ التي يمكن استوديوات هوليود أن تمنحها دور «البطل». ومع أن سيرة صلاح الدين الأولى في الغرب هي فرنسية وضعها لوي فرانسوا ماران في القرن الثامن عشر، لكن إده تشير إلى أن الأبحاث الجيدة حول هذا الموضوع نُشرت في بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا. أما في فرنسا فتعود آخر سيرة لصلاح الدين إلى أكثر من خمسين سنة وتندرج ضمن رؤية مثالية له. وتقرّ إدّه أن صعوبات هذه المهمة كثيرة وتعود في شكل رئيس إلى طبيعة المراجع المتوافرة. إذ لم يتبق إلا القليل من الوثائق التاريخية، بينما يقف خلف القسم الأكبر من المصادر السردية الموجودة شخصيات مقرّبة من صلاح الدين أو من خلفائه، أقدموا على وصفه بنيّة مدحية واضحة، وبالتالي ليس من السهل دائماً التمييز بين حقيقة شخصيته والبورتريه المثالي الذين يُقارَن به. وفي المقابل، ثمّة نصوص أخرى نابعة من محيط عدائي لصلاح الدين، كمحيط الزنوج في الموصل ومحيط مسيحيي الممالك اللاتينية في الشرق، الأمر الذي يجعل أيضاً من مسألة استخدامها مهمةً صعبة. ويطرح هذا الواقع سؤالين رئيسيان: إلى أي حد يمكن مؤرخاً معاصراً أن يعتمد على هذه المراجع؟ وكيف التمييز بين ما قيل داخلها بدافع المدح أو القدح وما ينتمي إلى ميدان الحقيقة؟ وفي معرض ردّها، تدعونا إدّه إلى قراءة هذه المراجع بروح نقدية. فرفضها كلها هو أسوأ من قبولها بحذر وتحفّظ. ومع أن أصحابها سعوا قبل أي شيء فيها إلى الإشارة إلى قيَم حاكمهم وإلى إظهار جدارته، لكنهم أشخاصٌ عرفوا صلاح الدين من قرب واستمعوا إليه ونصحوه وآسوه وشجّعوه وحاربوا إلى جانبه. بالتالي، فإن عملية سردهم، على رغم محسِّناتها ومبالغاتها الواضحة، تحتفظ بلا شك بأثر تلك اللحظات الحميمة، وتشهد غالباً على عمق معرفتهم بشخصية صلاح الدين. وتدعونا الباحثة أيضاً إلى قراءة هذه المراجع بغير نظرة المؤرّخ الذي يسعى إلى تحديد كيف حصلت الأشياء حقاً. طبعاً الأحداث لها أهميتها، لكن الطريقة التي فُهمت فيها هذه الأحداث واختُبرت وصُوِّرت من معاصري صلاح الدين لها أيضاً أهمية كبرى. فمن خلال خطابهم، يتجلى لنا مفهومهم للسلطة ورؤيتهم للعالم والقيَم الدينية والأخلاقية التي شكّلت الأساس لمجتمعهم. أما الصور والاستعارات والكلمات المختارة في كتاباتهم فتكشف لنا نظرتهم الى الأمير المثالي. وفي عملها، ارتكزت إدّه أوّلاً إلى ثلاثة مراجع رئيسة هي: الفاضل (1135-1200) الذي كان مستشار صلاح الدين وصديقه، عماد الدين الأصفهاني (1125-1201) وبهاء الدين ابن شدّاد (1145-1234). ولا تكمن أهمية هؤلاء فقط في كونهم منحونا في كتاباتهم شهادات مباشرة عن صلاح الدين الذي عرفوه جيداً، بل أيضاً في أدوارهم كلاعبين كبار في الساحة السياسية والدينية. ومن ناحية أخرى، تسلّط شهادة ابن الأثير (1160-1233) الضوء على ما كان يُقال في بلاط أمراء العراق، والموصل خصوصاً. وتستعين إدّه به أيضاً كما بمؤرّخين من القرنين الثالث عشر والرابع عشر اهتموا بعهد صلاح الدين، مثل ابن أبي طيّع أو المؤرّخين العرب المسيحيين الذين تعكس كتاباتهم موقف صلاح الدين من الطوائف غير المسلمة في الشرق وتساعدنا على فهم مواقفهم، أو المؤرّخين اللاتينيين وعلى رأسهم غييوم دو تير. يعثر القارئ في هذا الكتاب على تفاصيل الأحداث التي طبعت شخصية صلاح الدين، وعلى تحليل دقيق لكل جوانب هذه الشخصية وخصوصاً تلك التي لم تُدرَس كفاية، كالتأثيرات التي خضع لها ومفهومه للسلطة وأساليب حكمه وطريقة تطبيقه للشريعة الإسلامية، عطفاً على حياته اليومية والمحيط الذي كبر وعاش فيه. ويتضمّن الكتاب أيضاً وقفة طويلة عند صورة صلاح الدين وطريقة تمثيله من قبل الآخرين في زمنه، أي عند ولادة أسطورته. وتسمح كل هذه النقاط للباحثة بالتساؤل حول ما يُميّز الخطاب من الواقع، والتشييد الأدبي من التاريخ، مبيّنةً أن صورة صلاح الدين البطولية ترتكز إلى مزاياه الخاصة وشخصيته الفريدة بقدر ما ترتكز إلى توافق معاصريه والأجيال اللاحقة على تصويره بهذه الطريقة، أي كبطل. وتخصّص إده في بحثها الضخم هذا مساحة مهمة لصلاح الدين الإنسان بطموحاته وانفعالاته وميوله ونقاط ضعفه ومخاوفه، وهو الجانب المخفي منه الذي يصعب تحديده بدقة.