قبل سنوات عدة، حين سقط رئيس العراق السابق صدام حسين وسقط معه نظامه القمعي الدموي، خُيّل لكثر أن الباب صار مفتوحاً أمام ضروب إبداعات شعبية (أي تلفزيونية إذ يكاد الإبداع «الدرامي» التلفزيوني ينفرد اليوم بالنتاج الفني الشعبي، الى جانب الأغنية والرديء من الفن السينمائي)، للخوض في موضوع الديكتاتور الذي كان قبل ذلك من المحظورات في الحياة الفنية العربية، إلاّ في حالة واحدة: ان ينتَج العمل من قبل نظام ما، للتنديد بنظام آخر. بعد ذلك مرت السِّنون ولم تحدث تلك الاندفاعة التي كانت متوقعة، ليس فقط لفضح ممارسات صدام نفسه، بل كذلك لفضح فكرة الديكتاتورية سواء أكانت في السلطة السياسية العليا، أم في أدنى درجات السلم الاجتماعي: في البيت مثلاً. لم تحدث على رغم ذلك التجديد في الفكر العربي الذي راح يرى في وجود المستويات الديكتاتورية المتدرجة سبباً يكمن في خلفية ما نعتبره تخلّفاً عربياً. هل كان وراء غياب الاندفاعة خوف، أم إهمال، أم رقابة سياسية؟ لسنا ندري. بل ندري فقط انه حين ذُكرت أخبار قبل فترة تتحدث عن مسلسل يدور حول صدام حسين، سارع أصحاب الأسماء التي رُبطت بإنتاج المسلسل الى التأكيد أن عملهم لا يتحدث عن صدام كديكتاتور، بل عن شيء آخر تماماً. اليوم، وبعد سقوط حاكمَيْن فاسدَيْن في تونس ومصر، وفي وقت يبذل فيه الشعب الليبي جهوداً رائعة للتخلص من واحد من أسوأ نماذج الديكتاتوريين. وإذ يحدث تجديد مدهش في الأذهات العربية بفضل ما حدث في البلدان الثلاثة المعنية بالأمر حتى الآن، وما قد يحدث في بلدان عربية أخرى، يعاد طرح المسألة من جديد. ولكن، وعلى حد علمنا، من طريق أعمال وبأقلام لا تبدو واعدة وجذرية في هذا المجال. ذلك ان ما هو مقترح الآن هو - بين أمور أخرى - مسلسلات تصف ما حدث، من موقع بطولي يريد أن يؤسطر بعض جوانب المعركة في تونس ومصر، وربما في ليبيا أيضاً. أما ما هو مطلوب في الحقيقة فيتعدى هذا كثيراً: المطلوب هو أعمال تفكر حقاً، ليس في ما فعله الدكتاتور وفعله مناوئوه، بل في الظروف والأحوال التي تجعل الديكتاتور ممكناً، وفي التفاصيل التي تدفع مفكرين جادين وجذريين، الى تحري وجود الديكتاتور في كل مكان وموقع من حياتنا العربية. في اختصار، يُعتقد أن هذا هو المطلوب، وإلا فإن الفرصة ستفلت، تماماً كما أفلتت قبل سنوات فرصة مدهشة لخلق أعمال تساند محاولات قامت للتقريب بين الأديان والمعتقدات بغية القبول بالآخر وبالاختلاف... في ذلك الحين علت أصوات تطالب بمثل تلك الأعمال كي يتحول الموضوع من مؤتمرات نخبوية ونوايا طيبة، الى إعادة خلق الأذهان في محاولة لوأد التعصب والصراع الدينيين. فهل يكون مصير الدعوة الجديدة أفضل من مصير تلك؟